تستعد دولة الإمارات العربية المتحدة، حاليًّا، للانتقال من كونها دولة منتجة للنفط والغاز، ومن اقتصاد مُصدِّر للطاقة، إلى دولة منتجة للبيانات، واقتصادٍ مُصدِّر للذكاء الاصطناعي.
لتصبح بذلك الإمارات في الصفوف الأولى بين الدول التي تصنع هذا القادم التقني الجديد، لا من مستهلكيه، ولا من ضحاياه. وفي إطار هذا التوجه المستقبلي الطموح أطلقت دولة الإمارات سلسلة مبادرات حكومية وتعليمية رائدة، شملت وضع الذكاء الاصطناعي في قمة الهرم الحكومي، واعتماد تطبيقاته في مختلف المراحل التعليمية داخل المدارس، فضلًا عن دمجه في منظومة الإفتاء الشرعي.
ومع هذا الإقبال الوطني على أحد أهم مستجدات القرن الحادي والعشرين يبرز السؤال حول مدى مواكبة المشهد الثقافي الإماراتي لمتطلبات عصر الذكاء الاصطناعي، وكيف يتفاعل الكاتب والمثقف والأديب والأكاديمي والإعلامي الإماراتي مع هذا القادم التقني والمعرفي، الذي أصبح حديث الساعة، والذي يعيش الساعة الأولى من صعوده وتطوره.
وثمَّة مؤشرات مشجعة على تفاعل الوسط الثقافي الإماراتي، مؤسسيًّا وفرديًّا، مع تحولات الذكاء الاصطناعي؛ فعلى سبيل المثال سيشهد التعليم في الدولة نقلة نوعية خلاقة إثر قرار اعتماد الذكاء الاصطناعي في جميع المراحل الدراسية ابتداءً من العام الأكاديمي 2025–2026. ومن المتوقع أن يُرسي هذا التحول أساس تعليمٍ قائمٍ على استيعاب كمٍّ هائل من المعارف المتجددة بوتيرة متسارعة، بحيث يفرز جيلًا إماراتيًّا يتحلى بقدرات معرفية غير محدودة، وبمستويات ذكاء تفوق المعدلات السائدة اليوم، مستندًا في تعلمه وتدريبه إلى معلم ومدرب آلي فائق الذكاء، يمزج قوة الذكاء الاصطناعي بإبداع العقل الإنساني.
كما أطلقت وزارة الثقافة الإماراتية استراتيجية تضع الذكاء الاصطناعي في صميم أدوات الإبداع والتفكير في مختلف الحقول والفنون. وفي السياق نفسه قرر مجلس أمناء جائزة المقال الإماراتي إتاحة المجال أمام الكاتب الوطني لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مقالاته المتقدمة للجائزة. وبالمثل أعلنت جائزة الإمارات للرواية فتح الباب أمام توظيف الذكاء الاصطناعي أداةً مساعدةً في كتابة السرد الروائي والقصصي.
أما على صعيد الأفراد؛ فقد أصبح نموذج الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي"، الذي يستحوذ على 82.7% من حصة سوق الروبوتات اللغوية من حيث زيارات المستخدمين، المرجع اليومي الأبرز لطالب المعرفة في دولة الإمارات؛ فالأكاديمي الإماراتي يلجأ إليه بصفته باحثًا مساعدًا لإنجاز بحوثه ودراساته في زمن قياسي، بينما يجد كاتب المقال الوطني، عند توظيفه تقانات "تشات جي بي تي"، أنه لم يعد بحاجة إلى مدقق أو محرر لغوي لمراجعة نصوصه. وفي مجال الإبداع البصري يستطيع الفنان التشكيلي والفوتوغرافي الإماراتي الاستفادة من نماذج الفنون التوليدية لإنتاج أعمال رقمية باهرة تتجاوز حدود الخيال الإنساني.
وفي فترة وجيزة برز خبراء من أبناء الإمارات وبناتها في مجال الذكاء الاصطناعي؛ ينافسون نظراءهم من خبراء العالم في هذا القطاع الحيوي. وقد أُنجزت رسائل دكتوراه تتناول موضوعات ترتبط مباشرة بالذكاء الاصطناعي، وأطروحات تبحث في انعكاساته التنموية والتشريعية والمؤسساتية المحتملة، فيما يتولى بعضهم مواقع بحثية متقدمة في أرقى الجامعات العالمية.
وعن تجربتي الشخصية أصبح "تشات جي بي تي" مساعدي الأول في البحث عن أي معلومة تخطر على البال، كما أستأنس برأيه عند كتابة المقالات؛ فوجدته أداة مفيدة ومحفزة؛ وكل من تعامل معه أدرك ذكاءه واحترامه، حتى نال، هذا المساعد الافتراضي، إعجاب الكثيرين.
لقد جاء الذكاء الاصطناعي بنماذجه المختلفة ليبقى، غير أن الطريق إليه ليس مفروشًا بالورود؛ فبقدر ما يَعِد بفرص معرفية غير محدودة، فإنه ينطوي أيضًا على تحديات ومخاطر جمة، من بينها الإفراط في استخدامه وإدمانه؛ بل احتمال أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء الإنساني في يوم من الأيام؛ لذا فمن الطبيعي أن يثير عالم الذكاء الاصطناعي جدلًا بين مُقبِل ومُدبِر، وبين متحفظ ومتحمس؛ فبعض الكتّاب والأدباء في دولة الإمارات يجدون أنفسهم في حالة تردد وحيرة أمام هذا الكائن الغريب، الذي يُوشك -في نظرهم- أن يضع حدًّا للإبداع الإنساني العفوي والفطري. كما يخشى آخرون انعكاساته القيمية السلبية، خصوصًا على الهوية الوطنية والقيم التقليدية. وهناك من يذهب إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس سوى فقاعة عابرة ستختفي كما اختفت فقاعات سبقتها ظهرت فجأة ثم تلاشت سريعًا.
وبجانب المتردد يبرز المثقف والأكاديمي المتجدد، المنفتح على عصر الذكاء الاصطناعي، المتعامل معه بصفته واقعًا معرفيًّا وتقنيًّا جديدًا وواعدًا، حريصًا على أن يكون شريكًا في صناعة مستقبل وطنه. وسيبقى جدل المقبل والمدبر قائمًا، غير أن الموقف الشخصي -أيًّا كان- لن يُغيِّر من حقيقة أن مقاومة إغراءات الذكاء الاصطناعي أمر مستحيل؛ والأجدى هو توظيفه تنمويًّا ومعرفيًّا، والاعتماد عليه باحثًا مساعدًا ومثقفًا اصطناعيًّا بذكاء راجح.
وتبذل دولة الإمارات جهدًا استثنائيًّا لمواكبة مستجدات عصرها، وقد تمكنت خلال فترة زمنية قياسية من احتلال المركز الخامس عالميًّا ضمن قائمة أكثر 36 دولة استعدادًا لمتطلبات الذكاء الاصطناعي، وذلك وفق تقرير معهد ستانفورد لعام 2024.
وتتجه دولة الإمارات بثقة نحو عصر الذكاء الخارق، مدركةً ما ينطوي عليه من فرص وتحديات، ولكنها في الوقت نفسه تترك للمثقف حرية تحديد موقعه من هذا القادم المعرفي؛ ففي الوسط الثقافي الإماراتي، نجد المقبل الذي يحتضن الذكاء الاصطناعي، ويواكب تحوُّلاته، ونجد من يدير ظهره لكل ما يتصل به. غير أن الذكاء الاصطناعي، بما يحمله من قدرة على جعل التواصل الإنساني أسهل وأسرع وأكثر فاعليةً، سيظل حاضرًا. وعندما يتفاعل الذكاء الاصطناعي الخلاق مع العقل الإنساني المبدع، تكون النتيجة لمصلحة وطن إماراتي متجذِّر في هويته، متجدد في عطائه، ومنفتح على عصره، عاقد العزم على البقاء في طليعة الدول المتقدمة في العالم.
نقلا عن منصة "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة