تشهد أوروبا خلال العقدين الأخيرين تحولات عميقة تعيد صياغة موقعها في النظام الدولي، وتفرض عليها إعادة تعريف أدوارها ومصالحها في ظل بيئة جيوسياسية متقلبة.
فالقارة التي شكّلت لعقود مركزًا للنفوذ الغربي تحت مظلة الحلف الأطلسي، تواجه اليوم ضغوطًا متزايدة من الداخل والخارج، وتجد نفسها أمام استحقاقات استراتيجية كبرى على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
وتأتي هذه التحولات في سياق أوسع يتمثل في تغيّر أشكال الهيمنة الأمريكية، وصعود قوى آسيوية، وتزايد التنافس العالمي على الموارد والتكنولوجيا، فضلًا عن اشتداد الأزمات الإقليمية على حدود القارة. وقد مثّل الغزو الروسي لأوكرانيا نقطة انعطاف حاسمة دفعت أوروبا إلى إعادة تقييم سياستها الدفاعية، وتسريع خطط تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية، وتعزيز وحدتها الداخلية رغم التباينات بين الدول الأعضاء.
من أبرز مؤشرات هذا التحول انتقال الاتحاد الأوروبي من نهج "القوة الناعمة" إلى مزيج أكثر توازنًا يجمع بين أدوات الردع العسكري والسياسات الاقتصادية والدبلوماسية النشطة. فقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا غير مسبوق في الإنفاق الدفاعي الأوروبي، مع تعزيز القدرات العسكرية المشتركة وتنسيق أكبر بين الجيوش الوطنية. وفي المقابل، أدركت أوروبا أن أمنها الاقتصادي لا يقل أهمية عن أمنها العسكري، فتبنّت سياسات جديدة لحماية سلاسل الإمداد، وتأمين التقنيات الاستراتيجية، وتشجيع التصنيع المحلي في مجالات حيوية مثل أشباه الموصلات والطاقة المتجددة، وتنويع مصادر الطاقة لتقليل الارتهان الجيوسياسي.
كما تسعى أوروبا إلى تعزيز استقلالها الرقمي عبر تطوير بنى تحتية سيبرانية آمنة، وتوسيع استثماراتها في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة، وسنّ تشريعات رائدة لتنظيم الفضاء الرقمي، من أبرزها "قانون الأسواق الرقمية" و"قانون الخدمات الرقمية". وفي المجال الإعلامي، تواجه القارة الأوروبية تحديات التضليل المعلوماتي وحروب السرديات، وتسعى إلى بناء منصات إعلامية قادرة على إيصال الرواية الأوروبية إلى جمهور عالمي، وحماية مجتمعاتها من الاستقطاب الرقمي.
وفي السياق الثقافي، تعمل أوروبا على تعزيز هويتها المشتركة عبر برامج التبادل التعليمي والثقافي، واستثمار إرثها الحضاري لتقوية مكانتها كقوة ناعمة عالمية، مع الانفتاح على التنوع الداخلي الذي أصبح سمة ديموغرافية راسخة. وتسعى هذه المبادرات، إلى جانب سياسات الإدماج الاجتماعي، إلى خلق توازن دقيق بين الحفاظ على القيم الأوروبية والتكيف مع مجتمعات أكثر تعددية وتنوعًا.
إن أوروبا اليوم تقف على عتبة تحول تاريخي يملي عليها تجاوز النماذج التقليدية في التفكير الاستراتيجي، والانخراط بفاعلية في إعادة تشكيل النظام العالمي من موقع مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية. وبين ضغوط الداخل وتحديات الخارج، تظل قدرة القارة العجوز على الصمود والتجدد مرهونة بمدى توحد إرادتها السياسية، ومرونة أدواتها المؤسسية. إنها لحظة اختبار حقيقية لما إذا كانت أوروبا قادرة على التحول من قوة متأثرة بالتحولات إلى العودة كقوة مساهمة في صياغتها، على أسس من السيادة الرقمية، والاستقلال الاستراتيجي، والانفتاح الثقافي المسؤول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة