في مشهدٍ يعكس تداخل مسارات الإرهاب العابر للحدود مع تحولات السياسة في القرن الأفريقي، أعلنت السلطات النيجيرية أول من أمس عن توقيف اثنين من أبرز قادة جماعة "أنصار المسلمين في بلاد السودان".
عقب عملية أمنية استمرت أسابيع، واستهدفت عناصر متورطة في هجمات إرهابية، أبرزها عملية اقتحام سجن العاصمة أبوجا عام 2022، التي أدت إلى أعمال عنف أفضت إلى فرار مئات السجناء.
الإرهابيان المعتقلان، (محمود عثمان ومحمود النيجيري)، مدرجان منذ سنوات على قوائم المطلوبين محليًا ودوليًا، بوصفهما جزءًا من شبكة جهادية تتجاوز حدود نيجيريا لتتصل بتنظيمات دينية متطرفة إقليمية كبرى، في طليعتها "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الإرهابي. فمنذ نشأتها عام 2012 إثر انشقاق عن جماعة "بوكو حرام" الأكثر إرهابًا ودموية، مثّلت هذه الجماعة واجهة جديدة للتطرف، متكئة على إرثٍ تاريخي يتجاوز حدود المكان والزمان.
ورغم أن التأسيس الفعلي لهذه الحركة جرى في شمال شرق نيجيريا، فإن اختيارها اسم (بلاد السودان) لا يخلو من دلالة؛ فهو إذ يعكس مفهومًا تاريخيًا وذاكرة جغرافية قديمة تشمل المنطقة الممتدة من شمال وغرب إفريقيا وصولًا إلى السودان الحديث، إلا أن الأخطر أن هذا البعد الرمزي يجد جذوره العملية في الخرطوم نفسها، حيث شكّلت "جامعة إفريقيا العالمية" في الخرطوم منذ تسعينيات القرن الماضي أحد أهم وأكبر معامل تفريخ الفكر الجهادي وتخريج الإرهابيين.
فخلال حكم الحركة الإسلامية بقيادة عمر البشير (1989 – 2019)، تحولت الخرطوم إلى مرفأ وملتقى لمئات الطلاب القادمين من غرب وشرق إفريقيا، ليعود كثير منهم إلى بلدانهم محمّلين بأفكار العنف العابر للحدود. لم تكن الجامعة - المموّلة عبر مظلة منظمة الدعوة الإسلامية - وحدها، بل كان السودان كله ملاذًا آمنًا للجماعات المتشددة، وممرًا فكريًا وعِرًا يمتد من السواحل الصومالية إلى سهول نيجيريا.
اليوم، وبعد نحو ستة أعوام على سقوط مشروع "الدولة الإسلامية" القمعية الفاسدة في السودان بثورة شعبية عارمة انتظم فيها جميع السودانيين، تعود الحركة الإسلامية السودانية إلى الواجهة مرة أخرى، ليس فقط كقوة سياسية، بل كفاعل عسكري مباشر في قلب حرب 15 أبريل 2023، التي أشعلتها ضد قوات الدعم السريع ظاهريًا، وضد السودان وإرادة شعبه واستقراره وقواه المدنية الديمقراطية في الجوهر. فالسيطرة على مفاصل الجيش، وإعادة دمج الضباط المتقاعدين، وتجييش قواعدها في المؤسسات المدنية، وتأسيس الكتائب والميليشيات الإسلامية، وإعادة العلاقات مع أنظمة دينية منبوذة كالنظام الإيراني، كلها مؤشرات على محاولة إعادة إنتاج الحكم القديم، لكن هذه المرة في ظل حرب تمزّق البلاد، وبصورة أكثر توحشًا.
إن عودة الإسلاميين إلى الحكم لا تمثل مجرد ارتدادٍ سياسي داخلي، بل تحمل في طياتها خطر إعادة تحويل السودان إلى منصة مركزية للإرهاب العابر للحدود. فالبلد الذي يترنح تحت وطأة الحرب قد يصبح مجددًا عقدة وصل في شبكة جهادية تمتد من مالي ونيجيريا إلى القرن الإفريقي. والأدهى أن الكثرة الكاثرة من ضباط الجيش والأجهزة الأمنية في السودان اليوم يدينون بالولاء الأيديولوجي للحركة الإسلامية، ما يعني أن البلاد قد تواجه خطرًا مضاعفًا: استحواذًا داخليًا، وانفجارًا خارجيًا.
وعلى هذا النحو، يبدو السودان واقفًا عند مفترق طرق مصيري: إما أن يعود إلى طريق الدولة المدنية، محققًا انتقالًا ديمقراطيًا يعيد التوازن لمؤسساته ويحفظ أمنه واستقراره، أو أن ينحدر مجددًا إلى قبضة الإسلام السياسي، في إعادة مأساوية لثلاثة عقود من القمع والعزلة والتواطؤ مع الإرهاب العالمي.
إن الخطر الداهم في السودان لا يكمن في الحرب وحدها، بل في ما بعدها وما ستفرزه من مآلات سياسية. فإذا ما تُركت البلاد فريسة للإسلاميين - كما ترغب بعض الأنظمة في المنطقة لتحقيق مصالحها الطفيلية الآنية الضيقة - فإن الخرطوم قد تتحول مرة أخرى، وبصورة أكثر توحشًا، من مدينة تبحث عن الاستقرار والسلام إلى بؤرة مظلمة للتطرف، وموئل للإرهاب، تُصدّر العنف إلى المنطقة بأسرها، مهددةً مناخ الاستقرار في إفريقيا والمنطقة العربية، بل العالم بأكمله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة