تشهد المنظومة الدولية في المرحلة الراهنة تحولات بنيوية عميقة تعيد رسم خرائط النفوذ الجيوسياسي، وتختبر نماذج جديدة في إدارة العلاقات الدولية.
ويأتي هذا التحول في ظل تآكل النظام أحادي القطب الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، وصعود ملامح نظام عالمي متعدد الأقطاب يتسم بالمرونة والديناميكية.
وفي قلب هذه التحولات، يبرز الشرق الأوسط بوصفه مختبرًا حيويًا للتغيرات الجارية؛ إذ تتحول دوله تدريجيًا من موقع المتلقي للتأثيرات الدولية إلى موقع الفاعل المشارك في صياغة اتجاهاتها، مدفوعةً بصعود قوى إقليمية جديدة تتبنى سياسات متعددة المسارات، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة.
أحد المؤشرات الجوهرية لهذا التحول هو تغيّر أشكال النفوذ الأمريكي التقليدي في المنطقة، مع تعزيز روسيا لحضورها الإقليمي، وتكثيف الصين لأنشطتها الاقتصادية، مستثمرةً في مشاريع بنية تحتية كبرى وشراكات طويلة الأمد في مجالات الطاقة والتجارة. ولم تقتصر عملية إعادة تشكّل الشرق الأوسط على مجرد إعادة توزيع الأدوار بين القوى الكبرى، بل امتدت لتصبح عملية متشابكة متعددة المستويات، تشمل الأبعاد العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والإعلامية، والثقافية؛ بما يعكس التحول العميق نحو نظام دولي مختلف يتسم، أكثر من أي وقت مضى، بالمرونة والديناميكية، ويمنح المنطقة دورًا متناميًا في صياغة مستقبل التوازنات العالمية.
فعلى الصعيد العسكري، يتجسد ذلك في بروز تحالفات أمنية جديدة تربط بعض دول الخليج بقوى آسيوية وأوروبية، وتطوير قدرات متقدمة في مجالات الدفاع، ما يعزز استقلالية القرار الأمني الإقليمي. وعلى المستوى الاقتصادي، تتحول المنطقة إلى عقدة لوجستية عالمية من خلال مشاريع الموانئ العملاقة وربطها بشبكات التجارة العابرة للقارات، إلى جانب الاستثمارات في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، التي تمنحها موقعًا محوريًا في أمن الطاقة العالمي. أما البعد التكنولوجي، فيبرز من خلال الاستثمار في البنية التحتية الرقمية والمشاريع المستقبلية، مثل المدن الذكية ومراكز الابتكار في الإمارات والسعودية، التي تسهم في نقل المنطقة إلى مصاف الفاعلين الرئيسيين في الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. وفي المجال الإعلامي، تصعد منصات عربية ذات تأثير دولي، تقدم سرديات استراتيجية بديلة تعكس مصالح المنطقة، وتعيد صياغة صورتها في الرأي العام العالمي. وعلى الصعيد الثقافي، تُوظّف القوة الناعمة من خلال مبادرات كبرى لتعزيز صورة الشرق الأوسط كمحرّك للتواصل الحضاري ومصدر للإبداع الإنساني.
كما تمثل بعض دول المنطقة، كدولة الإمارات العربية المتحدة، مثالًا حيًا على أن مفهوم القوة لم يعد مقصورًا على القدرات العسكرية أو حجم الناتج المحلي الإجمالي فقط، بل أصبح يُقاس أيضًا بمدى قدرة الدولة على استيعاب التحولات الكبرى، وإعادة التموضع بمرونة وسرعة، وتطوير أدوات التأثير في مختلف المجالات، وبناء تحالفات استراتيجية مستدامة. وفي عالم يتسم بتسارع الأحداث وتغير موازين القوى بصورة مستمرة، تبرز الدول القادرة على الجمع بين التحليل الاستباقي والتحرك العملي كأكثر الفاعلين قدرةً على الصمود والتأثير؛ لأنها لا تكتفي بإدارة اللحظة الراهنة، بل تؤسس لرؤى بعيدة المدى تحافظ على مصالحها وتوسّع مجال نفوذها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة