مع التطورات الهائلة في مجالات مختلفة، وبقيادة التكنولوجيا، لم يعد الجمهور كتلة واحدة ساذجة يمكن توجيهها بخبر مقتضب أو رواية أحادية.
فالجمهور اليوم أكثر وعيًا وتنوعًا وتعقيدًا؛ هناك من يتابع الأخبار عبر المنصات الرقمية، وآخرون يعتمدون على شبكات التواصل، وفئة ثالثة تجمع بين المصادر وتدقق قبل التصديق، وآخرون يستعينون بأدوات الذكاء الاصطناعي لمتابعة المستجدات. هذه التعددية في أنماط الاستهلاك جعلت التعامل مع الجمهور مهمة دقيقة تتطلب احترام العقل وتقدير ذكاء المتلقي.
لكن، رغم هذا الوعي المتزايد، ما زال التضليل الإعلامي يجد طريقه إلى العقول، مستفيدًا من أدوات وأساليب حديثة تجعل الخداع أكثر دهاءً من أي وقت مضى. من أبرز هذه الأساليب الإغراق بالمعلومات، حيث تُغمر الساحة بأخبار متلاحقة لدفن الحقائق وسط الضوضاء، والتلاعب بالسياق عبر عرض أجزاء من الحقيقة وحجب ما يغيّر فهم الحدث. كما يُستخدم الإطار الإعلامي لصياغة الخبر بكلمات توحي برسالة معينة، فيما تتحكم نظرية تزييف الأولويات في ما يظنه الناس أهم القضايا.
إلى جانب ذلك، تلعب الصور والرموز العاطفية دورًا كبيرًا في تعطيل التفكير النقدي، بينما تضيف تقنيات الزيف العميق (Deepfake) بُعدًا جديدًا للخداع عبر إنتاج صور وفيديوهات مزورة يصعب كشفها. أما تكرار الرسالة، فهو سلاح قديم بفعالية متجددة، إذ يكفي إعادة المعلومة مرارًا حتى يصدقها جزء من الجمهور، بغض النظر عن صحتها.
هذه الأساليب، وإن كانت متطورة، إلا أن مواجهتها ممكنة إذا أدرك الإعلام مسؤوليته في الشرح الوافي، والتحلي بالشفافية، وتقديم المعلومات بأسلوب يحترم ذكاء المتلقي. كما أن تثقيف الجمهور بأساليب التضليل، وتشجيعه على التحقق من المصادر، يمثلان خط الدفاع الأول ضد الخداع.
جمهور هذا العصر أكثر وعيًا، لكن ذلك لا يعني أنه محصّن بالكامل. والإعلام الذي يحترم جمهوره هو وحده القادر على بناء الثقة في زمن يسهل فيه التشكيك والهدم. فالمعلومة اليوم ليست ملكًا لمن يملك وسيلة البث، بل لمن يكسب ثقة العقول وسط بحر من الضجيج الرقمي، ويوصلها بسرعة وسهولة إلى الجمهور المستهدف بأسلوب يتناسب معه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة