تُعدّ القمة المرتقبة بين الرئيسين الأمريكي والروسي، الجمعة المقبل، محطة جوهرية في مسار إعادة ترتيب الأولويات الدولية، خصوصاً في أعقاب نهاية النزاع الأوكراني أو تحقق هدنة واسعة النطاق.
وعلى الرغم من تعدد الاحتمالات، فإن انعكاسات هذه القمة ستصل سريعاً إلى ساحات إقليمية حيوية، لا سيما في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، حيث تبقى أفغانستان ساحة مركزية لتقاطع المصالح والنفوذ المتنافس.
الجانب الأمريكي يصف القمة بأنها "جلسة استطلاع" تقييمية لنوايا موسكو، ما يعكس تحفظاً على احتمال التوصل إلى اتفاق شامل وفوري. وفي المقابل، تظل روسيا متمسكة بمطالبها الاستراتيجية التي تتعلق بضمانات أمنية وامتيازات إقليمية، مع استعداد واضح لمواصلة العمليات العسكرية في حال عدم تحقيق تسوية مرضية.
تأتي هذه القمة في ظل تعزيز روسيا لموقعها الاستراتيجي في أفغانستان، بعد أن قامت بخطوة دبلوماسية بارزة تمثلت في الاعتراف الرسمي بحكومة طالبان في يوليو/تموز 2025، مما منحها أوراق نفوذ قوية في المنطقة. هذا الاعتراف يمكّن موسكو من لعب دور محوري في أي ترتيبات إقليمية مستقبلية، خاصة في ظل تعقّد المشهد الجيوسياسي وتداخل مصالح قوى إقليمية أخرى مثل الصين وإيران، اللتين تسعيان إلى تعظيم نفوذهما من خلال استراتيجيات استثمارية واستغلالية ومشاريع أمنية واقتصادية تُدار بشكل مستقل بعيداً عن السيطرة الغربية التقليدية.
الصين: عملاق صامت يمد نفوذه
الصين، كقوة اقتصادية وعسكرية صاعدة، تنظر إلى أفغانستان كجزء لا يتجزأ من مبادرة "الحزام والطريق". تهدف بكين إلى تأمين ممر بري يربطها بالشرق الأوسط وأوروبا، وتجد في أفغانستان موقعاً استراتيجياً غنياً بالمعادن النادرة مثل النحاس والليثيوم، والتي تُعد ضرورية لقطاعاتها التكنولوجية. استثمارات الصين تتركز على مشاريع البنية التحتية والتعدين، مما يُعزز من نفوذها الاقتصادي بعيداً عن التدخلات العسكرية المباشرة. يُمكن أن يؤدي أي تراجع في النفوذ الغربي إلى تسريع وتيرة هذه الاستثمارات، مما يرسخ موقع الصين كلاعب اقتصادي مهيمن في المنطقة.
المصالح الأوروبية: الأمن والحدود
الدول الأوروبية، وإن كانت لا تملك حضوراً عسكرياً مباشراً كبيراً في أفغانستان، إلا أنها تُولي اهتماماً بالغاً للاستقرار الإقليمي نظراً لتداعياته على الأمن الأوروبي. مخاوف تدفق اللاجئين المحتمل، وانتشار التطرف، وتجارة المخدرات، تجعل بروكسل تراقب عن كثب أي تحولات في أفغانستان. القمة المرتقبة بين ترامب وبوتين قد تؤثر على مسارات الدعم الإنساني والإنمائي، وتُعيد صياغة استراتيجيات التعاون الأمني الإقليمي التي قد تُشارك فيها الدول الأوروبية بشكل غير مباشر.
الدور الخليجي
تُعد دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وقطر، لاعبين أساسيين في المشهد الأفغاني، حيث تختلف استراتيجيات كل منها بحسب أولوياتها وقدراتها.
تُعد الإمارات العربية المتحدة لاعباً محورياً في المشهد الأفغاني، تتجاوز دورها الدبلوماسي والمالي التقليدي لتبني استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز الاستقرار. في ظل انعدام الدور العسكري الخليجي المباشر في أفغانستان، تبنت الإمارات نهجاً يقوم على دعم الحكومة الأفغانية من خلال تقديم مساعدات إنسانية مستمرة واستثمارات مدروسة في قطاعات حيوية، مثل البنية التحتية والطاقة. هذا التوجه ليس فقط تعبيراً عن مسؤولية إنسانية، بل جزء من رؤية استراتيجية لحماية مصالحها الأمنية القومية عبر منع تحول أفغانستان إلى منصة تهديدات إرهابية أو أزمات أمنية قد تؤثر على استقرار دول الخليج.
أما المملكة العربية السعودية، فتتبوأ موقعاً استراتيجياً متداخلاً بين دعم الاستقرار السياسي وتعزيز التأثير الديني والثقافي، مستغلة مكانتها كقوة إقليمية كبيرة وكمركز للعالم الإسلامي. وتُعزز الرياض دورها عبر دعم المشاريع التنموية والتنسيق مع الفاعلين الدوليين بهدف مواجهة التطرف والإرهاب، فضلاً عن تأكيد حضورها السياسي في المسارات الدبلوماسية التي تهدف إلى تسوية الأزمات الأفغانية.
في المقابل، تبرز قطر كوسيط رئيسي في ملف السلام الأفغاني، إذ استضافت مفاوضات حاسمة بين الأطراف المختلفة، ما منحها نفوذاً دبلوماسياً فريداً من نوعه، خصوصاً من خلال استضافة المكتب السياسي لحركة طالبان. هذا الدور الوسيط وضع الدوحة في موقع مؤثر يمكنها من المساهمة في التوازن الإقليمي وإعادة بناء أفغانستان ضمن إطار تفاهمات دولية معقدة.
مع انعقاد قمة ترامب-بوتين، تتجه الأنظار إلى كيفية استثمار هذه الدول الثلاث لنفوذها، إذ من المتوقع أن تعزز الإمارات والسعودية وقطر أدوارها الوسيطة والتنموية، عبر زيادة مساهماتها في مشاريع الإعمار والبنية التحتية، وتكثيف الجهود الدبلوماسية، سعياً لتحقيق استقرار مستدام في أفغانستان، يحمي مصالحها ويخدم مصالح المنطقة بأسرها.
الديناميكيات الداخلية الأفغانية: فاعل لا متلقٍ
أفغانستان ليست مجرد ساحة لصراعات القوى الخارجية، بل تلعب ديناميكياتها الداخلية دوراً حاسماً في تشكيل مستقبلها. حركة طالبان، كسلطة قائمة، تسعى لاستغلال التنافس الإقليمي لتعزيز شرعيتها وتأمين دعم اقتصادي. لكن الصراعات الداخلية بين الفصائل وتحديات مثل داعش-ولاية خراسان تهدد استقرار الحكم وتعرقل جهود السلام، مما يزيد تعقيد المشهد ويعمق تأثير أي فراغ استراتيجي دولي.
السيناريوهات المحتملة على أفغانستان
1- تسوية جيوسياسية لصالح موسكو: في حال أفضت القمة إلى تسوية تُعتبر انتصاراً دبلوماسياً لموسكو، فهذا سيعزز من ثقة روسيا الإقليمية ويدفع الصين وإيران إلى تكثيف استثماراتهما ونفوذهما في أفغانستان عبر قنوات اقتصادية وأمنية بديلة عن الحضور الغربي. هذا السيناريو يشير إلى تصاعد المنافسة على النفوذ غير العسكري، ويدفع إلى تفاقم الاستقطاب الداخلي، ما قد يولد توترات محلية عميقة.
2- هدنة متوازنة متعددة الأطراف: قد يتم التوصل إلى هدنة متوازنة ضمن إطار متعدد الأطراف مع آليات رقابة وضمانات دولية، تسمح بتحويل الموارد الدولية إلى مشاريع إعمار ملموسة، شرط أن يُشرك في ذلك جميع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين (باكستان، إيران، الصين، روسيا، ودول الخليج)، مع وضع معايير شفافية صارمة.
3- فشل القمة واستمرار النزاع: ففي حالة فشل القمة واستمرار النزاع، سيشهد الاهتمام الدولي بأفغانستان تراجعاً ملحوظاً، ما يفتح المجال أمام ظهور فراغات استراتيجية يُستغلها لاعبون محليون مسلحون، مما يزيد من مخاطر الاضطراب وانعدام الاستقرار الأمني في المنطقة.
4- تسوية شاملة الأقل احتمالاً: يبقى السيناريو الأقل احتمالاً هو التوصل إلى تسوية شاملة بقيادة غربية تُشرك أوكرانيا والدول الأوروبية، وتفرض قيوداً على توسع النفوذ الأجنبي غير الغربي، حيث تواجه هذه الخطة تحديات كبيرة في التطبيق بسبب التعقيدات الإقليمية والمقاومة المتوقعة من روسيا والصين وإيران.
الخلاصة
في الختام، تمثل قمة ترامب-بوتين متغيراً مؤثراً لكنه ليس العامل الوحيد في تحديد مستقبل أفغانستان. فالنتيجة العملية ستعتمد على قدرة الأطراف الإقليمية والدولية على الالتزام بالعمل متعدد الأطراف ضمن أطر شفافة وآليات إنمائية مستدامة. وإن كان إنهاء النزاع الأوكراني يُعيد ترتيب الأولويات، فإن الانتقال من صراع عسكري إلى صراع نفوذ اقتصادي وسياسي يبقى تحدياً جوهرياً قد يؤثر بعمق على استقرار الداخل الأفغاني والمنطقة ككل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة