السودان ليس معركةَ جنرالاتٍ على خريطة، بل امتحانٌ أخلاقيٌّ لمن ادّعوا الوصاية على الدولة.
حين يُطرَح وقفُ النار، يصبح الردُّ مرآةً لصاحبه: إمّا دولةٌ تحمي بشرها، وإمّا سلطةٌ تُبقي الحرب لتُبقي نفسها، من هنا جاء سؤالُ الدكتور أنور قرقاش المستشار السياسي لرئيس دولة الإمارات، اختبارًا لا يحتمل الالتفاف: ما المشكلة في أن يتوقف إطلاقُ النار الآن، وتُفتَح طريقُ الإغاثة ومسارُ الحكم المدني؟، إذا كان الجواب معقّدًا، فالمشكلة ليست في السودان.. بل في المشاريع التي تتغذّى على دمه.
ليس في موقف الإمارات لغزٌ يحتاج إلى تفكيك، جوهره بسيطٌ وشجاع: أوقفوا القتل، افتحوا الممرّات الإنسانية فورًا، وامنحوا السودانيين طريقًا إلى مدنيةٍ مستقلة لا وصاية فيها للبنادق، هذا المعيار الأخلاقي والسياسي متسقٌ مع رؤيةٍ أعلنتها أبوظبي مرارًا؛ الوقوف على الضفة الأخرى من مشروع الخراب، دعم الدولة المختطفة لا من اختطفها، ورفض تحويل «اسم الدولة» إلى واجهة حزبية أو مليشياوية تدير الخرطوم من بورتسودان وتوزّع التخوين على من لا يوقّع عقد ولائها.
وحين اندفعت ماكينة الاتهام لتصوّر الإمارات «طرفًا خفيًا» في الحرب، سقطت الرواية عند أول اختبار قانوني، محكمة العدل الدولية رفضت الدعوى، وتقارير أممية نفت سردية «التسليح والتدخل»، لم تحتج أبوظبي إلى صخبٍ دعائي، تركت للحقيقة مسارها، ولعملها الإنساني أثره، وللمؤسسات الدولية كلمتها، هكذا انكشفت الفقاعة لا دليل، لا شحنات، لا تواطؤ مجرد حملاتٍ كراهية مُحكَمة الصنع لإلصاق خراب الداخل بعنوانٍ خارجيّ.
يبقى السؤال الأعمق: لماذا تُستهدف الإمارات أصلًا؟، لأن نموذج «الدولة التي تبني الإنسان» يكشف عطب الخطابات التي تعيش على تعميم الفشل.
الإمارات، كما تقول فلسفتها المؤسسة، لا تبني حجرًا بقدر ما تبني إنسانًا، ونموذجها الواقعي يهدّد سردية «العجز البنيوي» التي تغذّيها الأيديولوجيات حين تعجز عن بناء دولة، لذلك تتحوّل إلى هدفٍ مفضل لكل ماكينة تشويه ترى في نجاحها فضيحةً لفكرٍ اعتاد تبرير الهدم وتخوين البناء.
على الجانب الآخر من المشهد، لا جديد في جذور الأزمة السودانية، منذ انقلاب الإخوان عام 1989 وجهاز «التمكين» يختطف الدولة لصالح مشروعٍ أممي يَستعمل العقيدة ستارًا للهيمنة، وحين أُعلن عن لجنة «وطنية» للتحقيق في اتهامات استخدام غاز الكلور، بدا الأمر نسخةً إضافية من منهج «تحصين الذات» متهمون يعيّنون محققيهم، وقضية خطيرة تختزلها لجان بلا استقلال ولا شفافية، لا تُغسل الدماء باستدعاء اللجان، بل بتحقيقٍ دوليٍّ شفاف تحت مظلة الأمم المتحدة، وبمسارٍ سياسيٍّ يقطع صِلة السلاح بقرار الدولة.
الحرب ليست بين دولة وشعب، بل بين جناحي النظام القديم في ثيابٍ جديدة، عسكر تربّوا في حضن البشير والترابي، وقوات خرجت من رحم الجنجويد، كلاهما لا يمثل الدولة ولا يعبّر عن إرادة السودانيين، كلاهما يطلب شرعيةً بالرصاص ويستثمر في طول أمد الفوضى، أخطر ما في اللحظة الراهنة محاولات تعويم هذه التركيبة باسم «الحفاظ على الدولة»، كأن الدولة تُبنى برؤوس البنادق ومجالس العزل ودفاتر التخوين.
في ميزان السياسة الواقعية، الدعوة إلى وقف النار ليست «رومانسية»، بل شرطُ أي مسار عاقل، الإغاثة أولًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المجتمع والدولة، ثم صياغة انتقالٍ مدني يَحُدُّ من سطوة السلاح على القرار، وكل يومٍ تأخير لا يوسّع سوى فجوة الكلفة.. كلفة إعادة البناء، كلفة المصالحة، وكلفة استعادة السيادة من قبضة الوكلاء.
لا يحتاج السودانيون إلى وسيطٍ جديد بقدر ما يحتاجون إلى شجاعة الاعتراف بأن الحرب الأهلية لا تُنتج دولة، وأن «المليشيا» مهما غيّرت أسماءها لا تُؤسِّس شرعية.
هنا يتقاطع المبدئي بالعملي، فالموقف الإماراتي، بما فيه من ضغطٍ أخلاقي وسياسي على طرفَي الحرب، لا يطلب المستحيل: وقفٌ فوريٌّ للنار، تحييدٌ للممرات الإنسانية، وإطلاقُ مسارٍ مدنيٍّ مستقل، وهو موقفٌ لا ينفصل عن سجلٍ إنسانيٍّ ملموس في السودان، وعن دورٍ دبلوماسيٍّ سعى إلى مسارات تفاوض من منصة جنيف إلى منصة جدة، بعيدًا عن لعبة المحاور ومنطق شراء الولاءات، وبينما ينهمك الآخرون في هندسات نفوذ، يبقى معيار أبوظبي ثابتًا: دعمُ الدولة الوطنية في مواجهة الدولة المؤدلجة، وتقديمُ الإنسان على الأيدلوجية دائمًا.
الذين يرفضون الاختبار الأخلاقي الذي طرحه قرقاش لا يَسقطون في الامتحان فحسب، بل يكشفون «سبب الحرب» بلا مواربة.. إنها وسيلةُ بقاءٍ للسلطة، لا وسيلةُ حمايةٍ للدولة، ومن هنا، يصبح الصمت العربي على طول خطوط النار مشكلةً مضاعفة، فالعرب ليسوا متفرجين على فيلمٍ بعيد، بل أصحاب مصلحةٍ مباشرة في أن تنجو الخرطوم من اختطافها الطويل، والفرصة قائمة الضغط السياسي والاقتصادي لفرض وقف النار، دعمُ التحقيق الدولي، رعايةُ مسارٍ مدنيٍّ لا يعيد إنتاج النظام القديم بوجوهٍ جديدة، وتثبيتُ مبدأ أن الشرعية تُقاس بقدرة الدولة على حماية مواطنيها لا بقدرة طرفٍ على إطالة الحرب.
خلاصة القول.. سؤال الدكتور أنور قرقاش ليس «تمنّيًا دبلوماسيًا»، بل معيارُ دولةٍ قرّرت أن تجعل حياة الناس أسبق من هندسات النفوذ، من يلتفُّ على السؤال، يجيب عن نفسه: يفضّل بقاء الحرب على بقاء السودان، أمّا الإمارات، فإنها بمنظورها الأخلاقي والعملي لا تطلب أكثر من البديهي؛ أن يتوقف الرصاص اليوم قبل الغد، وأن تُفتح الأبواب للمساعدات فورًا، وأن يُترك للسودانيين حقّهم في حكمٍ مدنيٍّ مستقلّ، هذا هو الخط الفاصل بين مشروع دولةٍ يعرف طريقه، ومشروع مليشيا لا يعرف إلا إدامة الخراب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة