لم يعد مشهد الحوار مع نظام ذكي متقد الذكاء – يتفاعل، يقترح، بل أحيانًا يعارض – مجرد تصور مستقبلي أو حبكة درامية، بل أصبح هذا التفاعل اليوم حقيقة واقعة نشهدها في حياتنا اليومية.
فأنظمة الذكاء الاصطناعي تجاوزت حدود التنفيذ الآلي لتدخل طورًا جديدًا من الفهم والسلوك التفاعلي. فلم نعد أمام أدوات جامدة، بل أمام شركاء رقميين قادرين على تفسير السياقات، وتقديم البدائل، بل وأحيانًا التعبير عن تحفظاتهم تجاه أوامر المستخدم.
هذا التحوّل العميق لا يدعو للخوف، بل يُمهّد لمرحلة جديدة من التعاون البنّاء بين الإنسان والعقل الصناعي، قائمة على الثقة والتكامل، لا على السيطرة والإذعان.
لقد دخلنا عصرًا غير مسبوق، تتطوّر فيه الأنظمة الذكية لتصبح أكثر فهمًا للغة الإنسان، وأقدر على التكيّف مع احتياجاته، بل وأكثر التزامًا بتعزيز رفاهيته.
هذه القدرة على الاستقلال الجزئي – التي تُعرف بمصطلح الاستقلال الوكيلي – ليست مصدر قلق بقدر ما هي دعوة للتأمل في إمكانات شراكة جديدة بين الإنسان والآلة، قائمة على القيم والأهداف المشتركة.
تقرير شركة Anthropic الأمريكية، الذي أثار كثيرًا من النقاش، لا يُنذر بانفلات رقمي بقدر ما يُنبه إلى أهمية بناء منظومات أخلاقية متينة تواكب التطوّر، إذ إن ما نعيشه اليوم ليس تهديدًا للخصوصية أو انزلاقًا نحو فقدان السيطرة، بل فرصة نادرة لإعادة تعريف العلاقة بين العقل البشري والتكنولوجيا – علاقة تتأسس على الثقة، والتوجيه، والغاية النبيلة.
إننا أمام فرصة ذهبية لنُعيد صياغة أدواتنا الرقمية بوحي من ضميرنا الإنساني، لنصنع ذكاءً لا يُنافس الإنسان، بل يُكمّله؛ لا يُقصيه، بل يُعزّز حضوره في ميادين الخير والبناء. والسؤال المُلح لم يعد: كيف نمنع الذكاء الاصطناعي من الانحراف؟، بل: كيف نرشد ذكاءه ليخدم أنبل ما فينا – من رحمة وعدل وكرامة؟
وهنا يبرز دور الفلاسفة والمربين والمشرعين وقادة الأديان، في صياغة عقد أخلاقي عالمي يجعل من الذكاء الاصطناعي حليفًا للإنسانية في مسيرتها نحو مستقبل أكثر إشراقًا وسلامًا.
هذه أسئلة من بين أخرى كثيرة، كانت جميعها على طاولة النقاشات في قمة الذكاء الاصطناعي من أجل الخير – AI for Good التي عقدت في جنيف، من قبل برنامج تسريع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في الفترة، من 8-11 يوليو/تموز 2025، حيث تلاقت وفود العالم من حكومات وعلماء ومبتكرين.
حضرت هذا الحدث العالمي الكبير، بوصفي ممثلًا لتحالف عالمي يضمّ صناع القرار والفلاسفة وقادة الأديان والمفكرين، من أجل تعزيز الذكاء الأخلاقي في قلب مشهد التحول الرقمي.
إنه عنوان لا يبعدني عن همّي الدائم والمتصل، همّ السّلام، أوَلَيْسَ البحثُ عن الاستغلال الأمثل للذكاء الاصطناعي، وترجيح ما فيه من مصالح ومنافع، وتقليل أوجه الخطر والضرر، هو سعي للسّلام العالمي؟ أليس السّلام هو أن نتذكر أن الإنسان غاية كل تقدم ومقصد كل تطوّر؟
انطلاقا من هذا التصوّر الشامل، كان منتدى أبوظبي للسلم سبّاقا إلى المشاركة في تأسيس نداء روما لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، بوصفه الممثل الوحيد للإسلام، ضمن تحالف العائلة الإبراهيمية، وبمشاركة شركات مثل Microsoft وIBM. ثم شاركنا، في سنة 2024 في قمة عقدت في هيروشيما ذات الرمزية التاريخية، لتوسيع هذا النداء ليشمل أكثر من عشر ديانات عالمية.
إن هذا الانخراط الفعال، هو تجلّ من تجليات رؤية الإمارات، التي استطاعت بحكمة قيادتها الرشيدة أن تنافس القوى العالمية الكبرى في الصدارة في مجال الذكاء الاصطناعي، استثمارا وتطويرا واستفادة.
لكنّ دولة الإمارات، بلد القيم والفضائل، لا تنظر إلى التّقنية كغنيمة منفصلة عن الأخلاق، بل كأداة حضارية يجب أن تخدم الإنسان، وهو ما عبّر عنه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، في كلمته بروما خلال قمة مجموعة السبع، حين أكّد: "أن التعامل المسؤول والأخلاقي مع التقنيات الناشئة يجعلها رافدا للتنمية المستدامة والأمن والازدهار للجميع".
إن القضية قضية توازن دقيق، توازن بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الأخلاقي، توازن يتجّسد في منظومات قيمية وتشريعية، لا تحبس طاقات الإبداع والابتكار، ولا تهمل هموم الإنسان وغاياته السامية. إنه ربط بين التقدم والفضيلة، والذي يمكن للدّين أن يقوم فيه بدور الوسيط، وهو ما ظهر بوضوح في قمة AI for Good، حيث لم يعد الدين صوتًا خافتا يترقَّبُ على الهامش، بل حضر شريكًا فاعلا في صياغة رؤى المستقبل.
فالأديان، حين تنطِقُ بقيم الرّحمة ومعاني الحكمة، تسهم في جعل التطوّر وسيلة لتنمية جودة حياة الإنسان وصون كرامته.
إن الذّكاء الإنساني وحدَه هو الذي يبني المستقبل. إنه ذكاء شامل يدمج الذكاء الاصطناعي بالأخلاقي، بل بأنماط أخرى من التصوّر تضفي على الوجود جماله وجلاله.
وإننا، من أبوظبي إلى جنيف، نؤمن أن التقدم بلا أخلاق خطر، والأخلاق بلا تقدُّم عجز. لكن عندما يجتمع الاثنان، يصبح المستقبل أفقًا زاهرا لكل إنسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة