منذ خمسة عقود، تحوّل ملف الهجرة الأفغانية إلى قضية محورية، أشبه بكرة تُقذف في ملاعب "اللعبة الكبرى" و"لعبة الأمم" للسياسة الدولية. ويبقى الشعب الأفغاني هو من يدفع الثمن الأكبر لهذه التجاذبات والصراعات.
شهدت أفغانستان عبر تاريخها الحديث سلسلة من التدخلات والصراعات، بدءًا من الغزو السوفياتي، مرورًا بالحروب الأهلية، وصولًا إلى التدخلات الغربية، الأمر الذي أسفر عن موجات متتالية من اللجوء والنزوح. ولا تزال قضية الهجرة الأفغانية قائمة في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، وتحوّل ملف اللاجئين إلى ورقة ضغط في الصراعات الإقليمية والدولية، وسط غياب حلول شاملة تتناول جذور الأزمة.
وقد عمدت بعض دول الجوار، وفي مقدمتها باكستان وإيران، إلى استغلال استضافة ملايين اللاجئين الأفغان بوصفها ورقة للمساومة السياسية والاقتصادية، سواء أمام المؤسسات الدولية أو في التعامل مع الأنظمة الأفغانية المتعاقبة، فضلًا عن توظيف هذا الملف في سياقات جيوسياسية معقّدة.
وفي ظل تغيّر اللاعبين السياسيين وتبدّل التحالفات الإقليمية والدولية، يبقى الشعب الأفغاني هو من يدفع الثمن الفادح لهذه الديناميكية. إذ تستمر معاناة اللاجئين الأفغان بين الفقر والتهميش وفقدان الأمل، وسط غياب أفق واضح يضمن مستقبلًا آمنًا ومستقرًا لهم ولأجيالهم القادمة.
أبعاد سياسية وتحديات إقليمية
أقدمت إيران مؤخرًا على ترحيل أعداد كبيرة من المهاجرين الأفغان قسرًا، في خطوة أثارت تساؤلات عديدة حول دلالة هذا التوقيت وأسبابه، وما ترتب عليها من ردود أفعال إقليمية ودولية. لا تُعد هذه الممارسات جديدة في سياق العلاقة الإيرانية-الأفغانية، بل هي حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التحديات التي واجهها الأفغان على مدار عقود في إيران، بدءًا من فترة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وصولًا إلى التدخلات الإقليمية الأخيرة.
بين 25 يونيو/حزيران و6 يوليو/تموز 2025، رحّلت إيران نحو 300 ألف مهاجر أفغاني، في تصعيد مفاجئ تجاوز 35 ألف شخص يوميًا. جاءت هذه الحملة وسط توترات أمنية بعد "الحرب الإيرانية-الإسرائيلية" في يونيو/حزيران، واتهامات للأفغان بالتجسس، بجانب أزمة اقتصادية متفاقمة دفعت السلطات لتحميل اللاجئين مسؤولية الضغوط الاجتماعية.
دلالات التوقيت والأسباب الكامنة
يحمل توقيت عمليات الترحيل القسري للمهاجرين الأفغان من إيران دلالات متشابكة على المستويين الداخلي والخارجي، تكشف عن أبعاد تتجاوز المبررات المعلنة من السلطات الإيرانية، خاصة الاتهامات المتكررة للمهاجرين الأفغان بالتجسس وتهديد الأمن القومي، وهي ذرائع واهية بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين إيران وبعض الفصائل الأفغانية، بما في ذلك ارتباطات مع المعارضة وقيادات داخل حركة طالبان نفسها.
داخليًا، تسعى طهران، كما يبدو، إلى تخفيف الضغط الاقتصادي والاجتماعي المتصاعد في ظل العقوبات الدولية والأزمات المالية المزمنة، إلا أن هذا الادعاء يتناقض مع واقع اعتماد قطاعات إيرانية عديدة على العمالة الأفغانية الرخيصة، فضلًا عن استمرار تدفّق العملة الصعبة إلى إيران عبر التحويلات التي يرسلها أفراد الجالية الأفغانية من دول غربية وأخرى عربية، مما يجعل وجودهم في إيران مصدر فائدة اقتصادية أكثر من كونه عبئًا.
وفي البعد الأمني، تدّعي إيران أن الخطوة تهدف إلى ضبط الحدود ومواجهة تهديدات محتملة، وهو تفسير يبدو متهافتًا؛ إذ إن إيران ذاتها طالما تورطت في زعزعة استقرار الإقليم وتغذية النزاعات المسلحة عبر وكلاء متعدّدين في العراق وسوريا واليمن وأفغانستان. كما أن الحديث عن "اختراق أمني" للمؤسسات الإيرانية من قبل مهاجرين أفغان يفتقر إلى أدلة موثوقة، خاصة وأن الحرس الثوري وفيلق القدس هما من استقطبا مجندين أفغان ضمن ما عُرف بـ"لواء فاطميون" للقتال في سوريا.
توظف إيران ملف اللاجئين الأفغان كأداة ضغط سياسي إقليمي، خاصة مع تصاعد التوترات مع الغرب وتنافس النفوذ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي. وتسعى من خلال ذلك للضغط على طالبان، وابتزاز المجتمع الدولي بطلب دعم سياسي واقتصادي، ما يجعل قضية اللاجئين ورقة في حسابات طهران الخارجية لتحقيق مكاسب تفاوضية وتعديل ميزان القوى لصالحها.
سجل طويل من المظالم.. استغلال إنساني لأغراض سياسية
إن العلاقة بين إيران والأفغان، لا سيما المهاجرين منهم، ليست وليدة اللحظة، بل تمتد لأكثر من خمسة عقود من التعقيدات والتوترات. فمنذ الغزو السوفياتي لأفغانستان في أواخر السبعينيات، استُقبل المهاجرون الأفغان في إيران وسط غياب لكثير من الحقوق الأساسية. وقد عُرفت السياسة الإيرانية ببراغماتية، إذ ساندت السوفيات في بعض المراحل ووقفت إلى جانبهم، ثم تحالفت لاحقًا مع الغرب للإطاحة بنظام طالبان الأول عام 2001، في مشهد يعكس تغليب المصالح الاستراتيجية على الاعتبارات الإنسانية.
تجلت هذه البراغماتية بشكل صارخ في استغلال المهاجرين الأفغان، وخاصة من أقلية الهزارة الشيعية، في صراعات إقليمية. فلقد جُنّد الآلاف من الشباب الأفغاني قسرًا أو عبر إغراءات مادية للقتال في صفوف المليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق، تحت ذريعة الدفاع عن "المقدسات الشيعية". هذا الاستغلال البشع يشكل وصمة عار في سجل إيران، حيث تم الزج بهؤلاء الشباب في أتون حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لخدمة أجندات إقليمية تتجاوز مصالحهم وحقوقهم الإنسانية الأساسية.
ردود الأفعال والخيارات المتاحة
لقد أثارت عمليات الترحيل القسري ردود فعل متباينة على الصعيدين الدولي والإقليمي. أعربت منظمات حقوق الإنسان عن قلقها البالغ إزاء انتهاكات حقوق الإنسان التي قد يتعرض لها العائدون قسرًا إلى أفغانستان، خاصة في ظل الظروف الأمنية والإنسانية المتدهورة هناك. كما دعت هذه المنظمات المجتمع الدولي إلى الضغط على إيران لوقف هذه الممارسات وتوفير الحماية اللازمة للاجئين.
إن ملف الهجرة الأفغانية ليس مجرد قضية إنسانية، بل هو ملف ذو أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية عميقة، تتطلب مقاربة شاملة من المجتمع الدولي لمعالجة جذور الأزمة وضمان حقوق وسلامة المهاجرين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة