منذ أن أضرم "الإخوان" شرارة الحرب في السودان، وما لبثت أن تحوّلت إلى واحدة من أكثر الحروب الأهلية فتكًا وتعقيدًا في القارة الأفريقية، تكرّرت، على نحو شبه دوري، اتهاماتٌ موجّهة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة..
تزعم دعمها العسكري واللوجستي لأحد أطراف النزاع، وتحديدًا قوات "الدعم السريع".
ولئن بدت هذه الادعاءات، في ظاهرها، نابعة من حرص استقصائي صحفي أو سعي إلى كشف الأدوار الإقليمية، فإن تكرارها، في غياب الدليل، ومنابرها الثابتة – من نيويورك تايمز إلى بلومبرغ – يجعل منها أقرب إلى خطابٍ مُعادٍ يرتدي لباس التحليل، منه إلى عملٍ صحفي يتحرّى الوقائع ويتّكئ على المصادر.
بيد أن ما يفاقم الإشكال ليس فقط تواتر الاتهام، بل أيضًا انعدام التوازن في الخطاب الإعلامي؛ إذ تُستحضر الإمارات، بإصرار يكاد يكون قسريًا، فيما تُحجب أسماء دول تمارس، فعليًا وعمليًا، تدخلًا صريحًا ومعلنًا، بالسلاح والطائرات، والخبراء أيضًا، وكأنّ ثمة من يعيد كتابة مشهد الحرب على الورق، لا كما يحدث في الميدان وعلى أرض الواقع!
لم تُخفِ الإمارات يومًا موقفها من الأزمة السودانية، بل أعلنت على الدوام دعمها للحلّ السلمي، وحرصها على تقديم المساعدات الإنسانية دونما اشتراط أو انحياز. وفي مواجهة سيل الاتهامات، كان الرد الإماراتي دائمًا واضحًا، حاسمًا، ومتكرّرًا: "لا علاقة لنا بالنزاع، لا تمويلًا، ولا تورّطًا، ولا اصطفافًا".
وقد لخّص الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة، هذه الادعاءات بدقة حين قال إنها “افتراءات قديمة لا أساس لها من الصحة”، في تعبير يُوجز حالة السأم من تكرار اتهاماتٍ مملّة لا تتبدّل سوى عناوينها، فيما يظل جوهرها خاويًا من أي برهان أو دليل يُعتدّ به!
من يتابع سجلّ الإمارات في السودان منذ اندلاع النزاع، لا يمكنه أن يغفل عن الحقيقة الأوضح: أن أبوظبي كانت، ولا تزال، من أكبر المانحين والداعمين الإنسانيين منذ بداية الأزمة السودانية. فقد أنشأت جسورًا جوية امتدّت حتى إلى بورتسودان، وقدّمت الدعم الطبي والإغاثي لمئات الآلاف من المدنيين المتضررين من النزاع، داخل السودان وخارجه، دون تمييز مناطقي أو سياسي.
وليس بعيدًا عن هذا المسار، جاءت الثقة الدولية المتزايدة بالإمارات؛ إذ لم يمضِ شهران على تبرئتها بواسطة محكمة العدل الدولية، من ادعاءات سلطة بورتسودان المماثلة، حتى تُوّجت، الأسبوع الماضي، بقرار البرلمان الأوروبي إزالة اسم الدولة من قائمة الدول عالية المخاطر في مجال غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وهو تصنيف لا يُمنَح بمحاباة، بل يستند إلى معايير صارمة من الشفافية والكفاءة التشريعية والمؤسسية، لا تغيب فيها مواقف الدولة المعنية ودورها في أمن واستقرار العالم.
غير أن الوجه الأشدّ تناقضًا في هذه المعادلة لا يكمن في الزجّ بالإمارات، بل في الصمت المُطبق إزاء دول تمارس تورّطًا صريحًا لا تخطئه عين. فإيران، ومنذ ما يزيد على عام ونصف، تسير رحلات منتظمة لطائرات الشحن العسكرية التابعة لشركة “فارس إير قشم” – المملوكة للحرس الثوري الإيراني – من بندر عباس إلى بورتسودان، محمّلة بشحنات سلاح لدعم (الجيش السوداني) ومليشيات وكتائب إسلامية متحالفة معه.
ولا يقتصر الأمر على النقل، بل يمتدّ إلى تسليح نوعي بطائرات مسيّرة من طراز “مهاجر”، وأخرى تركية من طراز “بيرقدار”، باتت تمثّل الذراع الجوية للجيش السوداني، وتشارك بفعالية في القصف المستمر، خصوصاً في ولايتي كردفان ودارفور. وقد تسبّبت هذه الهجمات، على مدى شهور، في سقوط أعداد هائلة من المدنيين، فيما التزمت معظم وسائل الإعلام الدولية صمتًا مريبًا، إن لم نقل متواطئًا!
لسنا بإزاء نزاعٍ تحكمه الحقائق، بل سرديات تُصاغ وتُوجَّه. فحين تُستدعى الإمارات إلى واجهة الاتهام بلا أدلّة، بينما تُطوى وقائع دامغة تخصّ فاعلين آخرين لا يُنكرون تورّطهم، نكون أمام مشهد إعلامي يُنتج الحقيقة على مقاس المصلحة، لا على ضوء التحقيق.
إن ما يثير القلق ليس مجرّد التشكيك في موقف الإمارات، بل استسهال الإدانة في مقابل تغافل متعمّد عن أدوار ميدانية موثّقة، تتجاوز الظنّ إلى الجهر، والاحتمال إلى الفعل. ذلك أن النزاهة لا تكون في السؤال عمّن يمكن اتّهامه، بل في الشجاعة بالسؤال عمّن يجب مساءلته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة