تجد الحركة الكردية السورية نفسها اليوم، مرة أخرى، أمام منعطف وجودي بعد إعلان عبد الله أوجلان، الزعيم الرمزي لحزب العمال الكردستاني، حلّ حزبه وإنهاء عقود من الصراع المسلح.
هذا القرار، الذي صدر في فبراير/شباط 2025، كان أثره كزلزالٌ كاد أن يهزّ الأسس التي بُني عليها مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، المعروف باسم "روجآفا".
فمنذ تأسيسها، ارتبطت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عضوياً بفكر أوجلان وأيديولوجية "الكونفدرالية الديمقراطية"، التي جعلت من الحزب المرجعية السياسية والعسكرية لها. لكن اليوم، ومع تفكك هذا الإطار، تواجه قسد تحدياً مزدوجاً: إعادة تعريف هويتها الروحية الرمزية في ظل فراغ قيادي، وكذلك التصدي لضغوط إقليمية ودولية تهدد بنسف مكتسبات سنوات من النضال.
لم تنتظر تركيا طويلاً لتترجم قرار أوجلان إلى فرصة استراتيجية. فمنذ إعلان حل الحزب، كثفت أنقرة مناوراتها العسكرية في شمال سوريا، مستهدفة مواقع لقسد في كوباني ومنبج، في رسالة واضحة بأن "الكيان الإرهابي" – حسب توصيفها – لا يزال موجوداً حتى لو غير اسمه.
ووفق تحليلات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (فبراير/شباط 2025)، فإن تركيا ترى في الانهيار التنظيمي لحزب العمال فرصة لضرب روجآفا، التي تعتبرها امتداداً طبيعياً للتهديد الكردي.
هذه الهجمات، التي تصاعدت بعد تراجع الوجود الأمريكي في المنطقة، تعيد إلى الأذهان سيناريوهات مشابهة في التاريخ الحديث، مثل انهيار الحركة الباسكية في إسبانيا بعد تفكك منظمة إيتا، حيث استغلت الحكومات المركزية الفراغ لفرض شروطها. لكن في حالة سوريا، تختلف المعادلة بسبب تعقيدات الوضع الإقليمي وغياب سلطة مركزية قوية.
في ظل هذه الضغوط، لجأت قسد إلى الحوار مع الحكومة السورية الجديدة، لكن المفاوضات، التي بدأت في مارس/آذار 2025، تواجه عقبات جمة. فالحكومة السورية، المدعومة من تركياً وتتلقى دعما عربيا واسعا، ترفض الاعتراف بالحكم الذاتي وتصر على دمج قسد في مؤسسات الدولة، وهو ما يراه الأكراد تصفيةً لمشروعهم.
هنا، يمكن قراءة التشابه مع اتفاقية أوسلو 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تحولت التسوية السياسية إلى أداة لاحتواء المقاومة دون منحها حقوقاً جوهرية. ومع ذلك، يحاول الأكراد، بقيادة مظلوم عابدي، محاكاة التناقضات الإقليمية، مثل التنسيق مع روسيا لضمان دور تركي محدود في الشمال، أو استغلال المخاوف الغربية من عودة تنظيم داعش لاستعادة الدعم الأمريكي.
داخل المجتمع الكردي، كشف قرار أوجلان عن شروخ عميقة. فبينما رأى البعض في الحل تحرراً من عباءة الحزب الأبوية، اعتبره آخرون "خيانة" للتضحيات التي قدمت. هذه الانقسامات تتفاقم مع تصاعد مطالب المكونات العربية والسريانية في الإدارة الذاتية بزيادة تمثيلها، مما يعيد إلى الواجهة سؤال الهوية: هل روجآفا مشروعاً كردياً بحتاً، أم إطاراً جامعاً للمجتمعات المحلية؟ ففي درس إقليم كردستان العراق، تحولت الهوية القومية إلى مصدر قوة ونقاط ضعف في آن، مع تراجع الحركة التحررية لصالح مشاريع سياسية محلية. ومع تراجع النموذج الأوجلاني، قد تشهد سوريا نشوء حركات كردية جديدة تجمع بين الخطاب المدني وواقع التفاوض مع الحكومات.
بالطبع، أثار تراجع الدعم الأمريكي لقسد تساؤلات حول مستقبل التحالفات في المنطقة. فواشنطن، التي كانت ترى في الأكراد حليفاً موثوقاً في محاربة الإرهاب، باتت اليوم أكثر تركيزاً على أولويات أخرى، مثل الملف الأوكراني والتنافس مع الصين. لكن هذا لا يعني نهاية النفوذ الأمريكي، بل تحولاً في آلياته. ففي تحليل نشره مركز كارنيغي (أبريل 2025)، يشير الباحثون إلى أن الولايات المتحدة قد تعتمد على "دبلوماسية الظل"، عبر دعم جماعات مدنية واقتصادية في روجآفا، لضمان استمرار النفوذ دون التورط عسكرياً. هذا النموذج يشبه إلى حد بعيد استراتيجية واشنطن في أمريكا اللاتينية، حيث تُستخدم المنظمات غير الحكومية كأدوات للتأثير السياسي.
في خضم المتغيرات المتسارعة، لم تعد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تقف على مفترق طرق فحسب، بل باتت تمشي على حبل مشدود بين احتمال الاندماج الكامل في الدولة السورية الجديدة، وانهيار المشروع الكردي الذاتي تحت وطأة الضغوط المتزايدة من الداخل والخارج. فقد كشفت الأسابيع الأخيرة عن هشاشة الاتفاق الموقع في مارس 2025 مع حكومة الرئيس أحمد الشرع، حيث تعثر التنفيذ وسط تباين جوهري في الرؤى: تصر دمشق على مبدأ "جيش واحد، حكومة واحدة"، بينما تسعى قسد إلى ضمانات صريحة بالاعتراف بخصوصيتها العسكرية والإدارية.
الأزمة تعمّقت مع التصريحات المباشرة للمبعوث الأمريكي توماس باراك، الذي اعتبر أن "الطريق الوحيد لقسد هو دمشق"، معلنًا تقاربًا لافتًا بين واشنطن ورؤية الحكومة السورية. باراك لم يكتف بتوجيه النصح، بل أكد أن أي تأخير في اندماج قسد سيجعلها عرضة لضغوط مزدوجة من دمشق وأنقرة، وصرّح صراحة أن "الفيدرالية لا تصلح في سوريا".
وفي ظل تراجع الدعم الأمريكي المالي والعسكري، والذي تقلّصت موازنته إلى أقل من 130 مليون دولار هذا العام، بدأت واشنطن تنظر إلى قسد كعبء استراتيجي أكثر من كونها شريكًا موثوقًا، مع التلميح المتكرر إلى ضرورة "انتقال تدريجي" نحو حكومة سورية موحدة.
وفي الداخل، يتصاعد الانقسام داخل "قسد" نفسها. الأحزاب الكردية، وفي مقدمتها الحزب اليساري الكردي، عبّرت عن رفضها التام لمحاولات دمج قسد دون استقلالية، واتهمت الحكومة الانتقالية بانتهاك بنود اتفاق 10 مارس/آذار، بينما حذّرت من أن التنازلات الزائدة قد تفتح الباب أمام انفجار داخلي، في وقتٍ يتصاعد فيه الضغط التركي لاستغلال الفوضى الناتجة.
وجهة نظري أن السيناريوهات الممكنة أمام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في هذه اللحظة المصيرية تدور حول ثلاث مسارات، لكل منها تكاليفه وأثره العميق على مستقبل المشروع الكردي برمّته؛ فإما القبول بالاندماج الكامل في مؤسسات الدولة السورية، وهو خيار يحظى بدعم أمريكي–سوري معلن وقد يؤمن الحماية من العزلة والهجمات التركية، لكنه ينهي فعليًا حلم الحكم الذاتي ويذيب قسد داخل الدولة الجديدة؛ أو الانكفاء نحو نموذج الإدارة الذاتية مع غطاء روسي هش، وهو خيار يعاني من هشاشة داخلية وانقسام كردي وتآكل للشرعية الشعبية، وقد يتحول إلى عزلة قاتلة في ظل الضغوط التركية المستمرة؛ أما السيناريو الأخطر، فهو انهيار الاتفاق مع دمشق بالكامل، ما سيعيد خلط الأوراق ويفتح المجال أمام الفوضى وعودة الجماعات المتطرفة وتوسع التدخلات الإقليمية، وسط انفجار محتمل داخل قسد نفسها. كل هذه المسارات تُحيل إلى معادلة واحدة: إما إعادة التموضع السياسي بذكاء وشجاعة، أو السقوط في فخ الجمود والانهيار، لأن الانتظار لم يعد خيارًا، والتاريخ لا يرحم المترددين.
في المحصلة، لم تعد قوات سوريا الديمقراطية في موقع مناور قادر على فرض شروطها. وعليها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تعيد صياغة هويتها الاستراتيجية، وتنتقل من كونها ذراعًا عسكرية لمشروع حزبي إلى قوة مدنية ذات برنامج سياسي واقعي. المستقبل ليس مضمونًا، لكن التاريخ يعلمنا أن التكيف مع الواقع أكثر نجاعة من التمسك بالسراب.
يقف الأكراد السوريون أمام مفترق طرق تاريخي. فكما تعلمت الشعوب من دروس الماضي، مثل الشيشان الذين بنوا دولتهم من رماد الحرب، يحتاج الأكراد اليوم إلى إعادة اختراع أنفسهم. هذا يتطلب التخلي عن ثنائية "النصر أو الانتحار"، والقبول بواقع التسوية، مع الحفاظ على جوهر المشروع التحرري. ففي عالم السياسة، كما قال هنري كسنجر، "لا توجد صداقات دائمة أو عداوات، بل مصالح دائمة". وعلى الأكراد أن يتعلموا هذه القاعدة، ليس للبقاء فحسب، بل لصناعة مستقبلهم بيدين حرتين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة