في العصر الرقمي الراهن، حيث تتداخل الحياة الواقعية مع العوالم الافتراضية بشكل غير مسبوق، يجد الإنسان نفسه أمام تحوّل جذري في طريقة التفكير والإدراك والسلوك.
لم يعد الوجود الإنساني محصورًا في الزمان والمكان، بل أصبح يمتد عبر الشاشات والمنصات والخوارزميات التي تتسلّل إلى تفاصيل حياته اليومية. ومن هنا يبرز سؤال جوهري ومقلق: هل ما زال الإنسان حرًا في خياراته وتفضيلاته، أم أنه أصبح محاطًا بشبكة خفية من الخوارزميات التي توجهه، بل وتشكل وعيه دون إدراك كامل منه؟
لقد تغيرت طبيعة المعرفة والإدراك في البيئة الرقمية بشكل عميق. ففي الماضي، كان الوصول إلى المعلومة يتطلب جهدًا وسعيًا وتأملًا، أما اليوم، فإن المعلومة تصل إلى الفرد بشكل لحظي، مفلترة ومنتقاة عبر خوارزميات تتعلم منه، وتتنبأ بسلوكه، وتقدّم له محتوى يتوافق مع ميوله وتوجهاته. هذه الخوارزميات، التي صُمّمت في البداية لتحسين تجربة المستخدم وتوفير محتوى ملائم، تحوّلت تدريجيًا إلى أدوات ناعمة للهيمنة الثقافية والفكرية. هي لا تُجبر الإنسان على شيء، بل تُغريه، ولا تُمارس القمع بل تُقنع، وتمنحه وهم الحرية في قوالب من التخصيص الذكي الذي يعزل المستخدم داخل "فقاعة رقمية" مريحة، لكنها محدودة ومغلقة.
تقوم هذه "الفقاعة" على مبدأ إرضاء المستخدم وتقديم ما يُشبهه، مما يُقصيه تدريجيًا عن كل ما يختلف عنه أو يزعجه أو يتحدى أفكاره. هكذا يفقد الإنسان، دون أن يشعر، القدرة على التعرّف إلى الآخر، والتفاعل مع المختلف، وتوسيع آفاقه الفكرية والثقافية. إنه انغلاق طوعي، لكنه مبرمج بعناية، ويُنتج شكلًا جديدًا من التلقّي السلبي الذي يُضعف ملكة التفكير النقدي، ويُعزز الاستهلاك السريع للمحتوى والمعرفة السطحية.
ومع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتقنيات التنبؤية، تتعمق الأزمة. فهذه الأنظمة الذكية لا تكتفي بمراقبة السلوك، بل تبدأ في التأثير عليه. فهي تعرف متى نتوقف عن التمرير، وما الذي يجذب انتباهنا، وتستخدم هذه البيانات لتوجيهنا نحو قرارات بعينها: ماذا نشتري، من نُعجب به، ماذا نُصدّق، وأحيانًا، ما الذي نشعر به.
ويُضاف إلى ما سبق تعدد الموضوعات والسرعة التي تُعرَض بها على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يُعرض المتصفح لمشاعر متباينة، متسارعة التغير، مما يؤثر عليه عصبيًا وذهنيًا على المدى الطويل.
وسط هذا المشهد، يبرز التحدي الحقيقي: كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على حريته الداخلية، واستقلاله الفكري، وسلامه النفسي؟ كيف يمكنه تطوير وعي نقدي يُمكّنه من مقاومة هذه السيطرة الناعمة؟ هنا تظهر أهمية "التربية الرقمية" بوصفها ضرورة لا ترفًا. فكما نحتاج إلى التربية الأخلاقية والاجتماعية، فإننا اليوم في حاجة ماسة إلى تربية رقمية تُعلّم الفرد كيف يتعامل مع التكنولوجيا بوعي، وكيف يميّز بين ما يُعرض عليه وما يختاره بحرية، وكيف يُدرك حدود ما تتيحه له الخوارزميات، ومخاطر ما تخفيه.
في النهاية، الإنسان الرقمي ليس ضحية حتمية لعصره، لكنه ليس محصنًا بطبيعته أيضًا. إنه مدعو، أكثر من أي وقت مضى، إلى ممارسة حريته من داخل هذا النظام لا من خارجه، وإلى تطوير مقاومة ذكية تُجنّبه السقوط في فخ السيطرة الناعمة التي تُمارسها الخوارزميات باسم الراحة والتخصيص والحرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة