تحدثتُ سابقًا عن خطورة التزييف العميق (Deepfake) وما يحمله من تهديد للقيم المجتمعية وخصوصية الأفراد، واليوم نحن لا نقف أمام تحذير نظري، بل أمام واقع خطير بدأ يتجلى بوضوح، ويمس شرائح واسعة من المجتمع دون وعي بخطورته أو عواقبه.
في الأيام الأخيرة، انتشرت على منصات التواصل مقاطع مصنوعة بالكامل بالذكاء الاصطناعي، تُظهر أشخاصًا – خاصة من كبار السن – وهم يتفوهون بكلام بذيء أو يتصرفون بأساليب تسيء لصورتهم وتتنافى مع ما يمثلونه من وقار واحترام في الوعي الجمعي. قد يبدو الأمر للبعض نوعًا من المزاح أو الكوميديا الرقمية، لكنه في الحقيقة يحمل أبعادًا أخلاقية واجتماعية وقانونية مقلقة للغاية.
هذه الظاهرة تكشف أن تقنيات الذكاء الاصطناعي لم تعد حكرًا على المؤسسات أو المختصين، بل أصبحت أدوات متاحة لأي شخص، ويمكن من خلالها فبركة أصوات وصور وسيناريوهات كاملة تُعرض على الجمهور وكأنها حقيقية. وهنا يكمن الخطر الأكبر: تآكل الثقة بالواقع نفسه، وخلق بيئة يصبح فيها الكذب أكثر إقناعًا من الحقيقة.
إن الاستهداف لا يقتصر على المشاهير أو الشخصيات العامة، بل بدأ يطول أشخاصًا عاديين، ما يُهدد النسيج المجتمعي ويُضعف الاحترام المتبادل، خصوصًا عندما يتم استخدام هذه المقاطع في السخرية، أو التشهير، أو حتى الابتزاز الرقمي. نحن أمام تكنولوجيا تُستخدم دون ضوابط، في فراغ قانوني وأخلاقي لم يُسد بعد.
ومن هنا، فإن هذا المقال يُعد بمثابة نداء عاجل للجهات القانونية والتنظيمية، وللمؤسسات الإعلامية والاجتماعية لاتخاذ خطوات جادة وسريعة لمواجهة هذه الظاهرة.
يجب العمل على إعداد تشريعات واضحة وصارمة تُجرم إنتاج أو نشر المحتوى الزائف المصنوع بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتأسيس وحدات متخصصة لرصد هذا النوع من الانتهاكات ومتابعتها داخل الأجهزة الإعلامية والرقابية.
كما أن التوعية المجتمعية باتت أولوية، من خلال حملات توضح مخاطر التزييف العميق، وتُرشد الأفراد إلى سبل اكتشاف المحتوى المفبرك. وفي السياق ذاته، لا بد من تحميل المنصات الرقمية مسؤوليتها الكاملة في هذا الجانب، وإلزامها بإجراءات رقابية فعالة، ووسائل تقنية تحدد مصدر المحتوى وتكشف عن مدى مصداقيته.
ما يجري اليوم ليس موجة عابرة، بل بداية عصر جديد من تشويه الحقيقة على نطاق واسع، إذا لم نتعامل معه بوعي وحزم، سنجد أنفسنا في عالم لا يمكن الوثوق بأي صورة فيه، ولا بأي صوت يُقال.
كرامة الناس ليست مادة للضحك، ولا صورة الوقار تُختزل بمشهد مزيف. لقد آن الأوان لنتعامل مع هذه الظاهرة بمسؤولية، ونضع خطوطًا حمراء أمام من يحاولون العبث بصورة الناس والمجتمعات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة