في عالمٍ تتسارع فيه التحديات وتتعقّد فيه القضايا، من تغيّر المناخ إلى الأمن الغذائي، ومن الثورة التكنولوجية إلى التحولات الجيوسياسية، لم تعد العلاقات الدولية حكرًا على العواصم وصنّاع القرار المركزيين.
بل باتت المدن اليوم تلعب دورًا محوريًا متزايدًا في صياغة مستقبل العالم، عبر ما يُعرف بـ«الدبلوماسية الحضرية».
وفي هذا السياق، تبعث مدينة تيانجين الصينية برسالة واضحة إلى المجتمع الدولي، وهي تحتضن فعاليات «الحوار العالمي لعُمد المدن – منتدى مدن منظمة شنغهاي للتعاون»، بمشاركة واسعة من رؤساء البلديات، والخبراء، والمسؤولين من آسيا وأفريقيا وأوروبا. حيث يناقش المشاركون سُبل تعزيز التعاون بين المدن، وتبادل التجارب التنموية، وابتكار حلول مستدامة تعالج التحديات المحلية في إطار رؤية عالمية.
إنّ مفهوم «الدبلوماسية الحضرية»، الذي يقوم على التواصل المباشر بين المدن من خلال مشاريع شراكة، وبرامج تدريب، وتبادل ثقافي، لم يعد ترفًا فكريًا، بل أصبح ركيزة من ركائز التعاون الدولي في القرن الحادي والعشرين. ومنظمة شنغهاي للتعاون، بروحها القائمة على الثقة والمنفعة المتبادلة، تُجسّد نموذجًا متقدّمًا لهذا النمط من التعاون، لا سيما من خلال تعزيز التكامل بين مدن الدول الأعضاء.
المدن، سواء في الصين أو العالم العربي، لم تعد مجرد وحدات إدارية أو كيانات جغرافية، بل غدت مراكز نابضة بالحياة، تقود التنمية، وتحتضن الابتكار، وتشكّل جسورًا ثقافية بين الشعوب. فبفضل شبكاتها الاقتصادية، وموانئها الحيوية، ومؤسساتها التعليمية، تستطيع المدن أن تلعب دورًا رئيسيًا في بناء عالم أكثر توازنًا واستقرارًا.
من أبرز الأمثلة على هذا الدور الحيوي، يبرز ميناء تيانجين، الذي يُعد أحد أكبر الموانئ الذكية والخضراء في العالم. هنا، تلتقي الطرق البحرية بالسكك الحديدية، لتربط الصين بأكثر من 500 ميناء في 180 دولة. وتُعد خطوط القطارات السريعة التي تنطلق من تيانجين إلى آسيا الوسطى وأوروبا، جزءًا أساسيًا من مبادرة «الحزام والطريق»، حيث تسهم في تعزيز سلاسل الإمداد، وتسهيل التبادل التجاري، وخلق فرص تنموية متبادلة.
وإذا كانت البنية التحتية هي العمود الفقري للتكامل، فإن التعليم هو قلبه النابض. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة «ورشة لوبان»، التي انطلقت من تيانجين، كنموذج مميز لكيفية تسخير التعليم المهني لتعزيز التواصل بين الشعوب، ونقل المهارات والخبرات.
في مصر، وتحديدًا في جامعة عين شمس، تم تأسيس واحدة من أوائل ورشات لوبان في أفريقيا، بالشراكة مع مؤسسات تعليمية من تيانجين. وتوفّر الورشة برامج تدريب متقدمة في مجالات حيوية مثل الطاقة والسيارات والتحكم الرقمي، ما يمنح الشباب المصري أدوات عملية لدخول سوق العمل بثقة وكفاءة.
إنّ إيمان الصين بأن «نقل المعرفة هو أساس التنمية والشراكة» يتجلّى بوضوح في هذه المبادرات، التي تضع الإنسان في قلب العملية التنموية.
من الطبيعي أن يحتل الشباب موقعًا محوريًا في جدول أعمال منتدى العُمد، فهم ليسوا فقط الفئة الأكثر تأثرًا بتحديات الحاضر، بل أيضًا الأكثر قدرة على طرح حلول مبتكرة للمستقبل. إنّ دعم مبادرات مثل التدريب المهني، وريادة الأعمال، والتبادل الثقافي بين الشباب في المدن، يُعد استثمارًا حقيقيًا في السلام والتنمية والاستقرار.
وتمثّل «ورشات لوبان»، والمنتديات الشبابية، وبرامج التبادل الجامعي، نماذج حقيقية لهذا التوجّه، الذي يجعل من الشباب ركيزة في بناء مجتمع عالمي ذي مستقبل مشترك.
تُقدّم تجربة تيانجين، كنموذج للمدينة الصينية الحديثة، دليلاً ملموسًا على أن التنمية الحضرية ليست فقط عمرانًا وشبكات نقل، بل منظومة متكاملة تشمل التعليم، والحوكمة، والبيئة، والتواصل الثقافي.
إنّ منتدى عُمد مدن منظمة شنغهاي ليس مجرد لقاء دبلوماسي، بل منصة حقيقية لصياغة رؤى مشتركة، وبناء شراكات قائمة على الاحتياجات الواقعية والثقة المتبادلة. ومن هنا، تأتي أهمية تحويل نتائج الحوار إلى خطط ملموسة، تلامس حياة الناس، وتسهم في بناء مدن أكثر استدامة وإنسانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة