تحديات وجبهات مضادة.. الوجه الآخر للذكاء الاصطناعي
إن الافتقاد إلى وجود بنية تنظيمية لإدماج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، بدأ يفرض نفسه على النقاشات الدولية.
شهدت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي خلال فترات زمنية قصيرة جدًا تطورات غير مسبوقة، وذلك بوتيرة متسارعة، وتٌعرف تلك التكنولوجيا على أنها برمجة أنظمة الحاسبات بما يجعلها قادرة على محاكاة وأداء المهام التي تتطلب عادةً الذكاء البشري في القيام بها، مثل: الإدراك البصري، والتعرف على الوجه والكلام، بل وصنع القرار.
حيث يتم تزويدها بالقدرة على الإدراك، والتخطيط، والتواصل، وأخيرًا التنفيذ، الأمر الذي مكنها من اختراق كافة مجالات الحياة، بداية من المجالات التكنولوجية والتجارية، وصولاً إلى المجالات السياسية والعسكرية، بل والعديد من المجالات الاجتماعية ذات الأهمية مثل الرعاية الصحية والتعليم والعمالة والعدالة الجنائية وغيرها.
وعلى الرغم من أن ذلك التطور السريع في التكنولوجيا المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وثنائية وتعدد مجالات الاستخدام من جانب الدول والقطاع التجاري تطرح آفاقًا أرحب من إمكانيات التوسع المستقبلي في الاعتماد على تلك التكنولوجيا الجديدة وإدماجها في كافة مجالات الحياة، إلا أن الافتقاد إلى وجود بنية تنظيمية وتشريعية لإدماج تلك التكنولوجيا في الحياة اليومية للمواطنين، بما يضمن وجود هياكل ملائمة للمساءلة والحماية من الأخطار المترتبة على استخدامها، بدأ يفرض نفسه على النقاشات الدولية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، حتى إنه يمكن القول بتشكل جبهة جديدة مضادة للذكاء الاصطناعي.
ونتيجة لأهمية ذلك التوجه يناقش التقرير الحالي الذي أصدرته مؤخرًا إحدى المؤسسات البحثية التابعة لجامعة نيويورك "AI Now Institute"، والمعنية بدراسة الآثار الاجتماعية للذكاء الاصطناعي، بعض التحديات التي أصبحت تترتب على إدماج الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات الحيوية، وكذلك بعض التوصيات التي يمكن تقديمها لصناع القرار لتفادي التداعيات السلبية المترتبة على تلك التحديات.
ومن ثم يعد التقرير بمثابة حصاد تجميعي لأهم التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي خلال عام 2019.
- الذكاء الاصطناعي يسارع وتيرة الهيمنة على أسواق المال
- "واي آي تكنولوجي" تنتج كاميرا مراقبة تعتمد على الذكاء الاصطناعي
الجبهات المضادة للذكاء الاصطناعي
يكشف التقرير أنه على الرغم من المزايا التي تقدمها التكنولوجيا المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وتزايد الاهتمام العالمي بوضع الأطر الأخلاقية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك العديد من القضايا الملحة التي تحتاج إلى المزيد من المعالجة، ويمكن تناول أهم الأفكار التي طرحها التقرير على النحو التالي:
1- التأثير على بيئة العمل
يشير التقرير إلى أن زيادة الاعتماد على تكنولوجيا الإدارة من خلال الخوارزميات في أماكن العمل، والتي أضحت تتحكم في كل شيء بدءًا من إجراء المقابلات ومراقبة عمليات الإنتاج، وصولاً إلى تحديد أنظمة الأجور والجداول الزمنية، حتى أصبح يطلق عليها أنظمة الذكاء الاصطناعي لإدارة العمال (AI-enabled management of workers).
قد أدى كل ذلك إلى إضافة المزيد من الخلل في العلاقة بين العمال وأصحاب العمل من خلال تمكينهم بالمزيد من عناصر القوة والتحكم. الأمر الذي أصبح يشكل تهديدًا كبيرًا ليس فقط على العمالة منخفضة المهارة والتي تواجه مخاطر الاستغناء عنها أو تقليص حجمها إلى الحد الأدنى أو تغيير المهام المطلوبة منها من إنجاز الأعمال إلى مراقبة الآلات، وإنما تمتد تلك التهديدات إلى منظومة الأجور بشكل عام.
هذا فضلاً عن انخفاض الأمن الوظيفي نتيجة لوجود البدائل أو تحديد أهداف إنتاجية مبالغ فيها، مما يعرض العمال للإصابات المزمنة والإجهاد النفسي، وكذلك مراوغة أصحاب العمل في توفير أنظمة التأمينات والحماية الاجتماعية للعمال.
وقد تمثلت التوصية الأساسية التي قدمها التقرير في هذا الشأن، في ضرورة اتخاذ العمال مجموعة من الإجراءات الحمائية ضد اجتياح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لبيئة العمل من خلال تفعيل دور النقابات في وضع معايير متفق عليها من الجميع للعمل العادل والآمن، بما يحفظ حقوق العمال وسلامتهم ويوفر عناصر الحماية اللازمة.
2- تعميق أوجه عدم المساواة
نوه التقرير إلى بعد اجتماعي شديد الأهمية يبدو أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد أغفلته وهو إسهامها في تضخيم الفوارق والفجوات بين الجنسين وكذلك الإثنيات والأعراق.
وأبرزت الأبحاث الحديثة النقص الشديد في التنوع داخل صناعة الذكاء الاصطناعى، وكذلك ضخامة حجم الاختلافات الديموجرافية الهائلة المترتبة عليها بين السكان الذين يستفيدون من تلك التكنولوجيا وأولئك الذين يتحملون تكلفة التحيز والاستغلال من جانب تلك التكنولوجيا.
ومن أبرز الأمثلة على دور الذكاء الاصطناعي في تعميق الفجوة بين الجنسين الاتهامات التي تم توجيهها للخوارزمية الخاصة ببطاقة الائتمان التي أطلقتها شركة آبل (Apple Card) حيث تبين أنها منحت رجل الأعمال (ديفيد هاينماير هانسون) 20 ضعفًا من الحد الائتماني الذي تلقته زوجته، وهو ما أدى إلى إجراء تحقيقات من قبل كل من لجنة مجلس الشيوخ للشؤون المالية ووزارة الخدمات المالية في ولاية نيويورك.
وقد خلص التقرير إلى أهمية إجراء تغييرات هيكلية كبيرة لمعالجة أوجه عدم المساواة المتضمنة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويعزى ذلك إلى حد كبير نتيجة لمعاملتها تلك المجموعات من النساء، والأشخاص الملونين، والأقليات العرقية، وتمثيلها تمثيلا ناقصا. هذا بالإضافة إلى أهمية التنوع والعمل على إدماج كافة المجموعات في الصناعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
3- التوسع في المراقبة والرصد
يشير التقرير إلى أنه في حين يتم بذل المزيد من الجهود من أجل وضع القوانين المنظمة لإدماج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات، إلا أن استخدامها من جانب الدول في أعمال المراقبة والرصد تعرقل تلك الجهود.
وخلال العام الماضي، تم طرح العديد من القوانين واللوائح المقترحة التي تستهدف تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي، وبصفة خاصة تلك المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل التعرف على الوجه كأحد أعمال المراقبة والتتبع، ومن ذلك عدة مشاريع قوانين تم مناقشتها في الكونجرس، ومن أبرزها قانون حماية بيانات التعرف على الوجه لضمان الخصوصية عند استخدامها لأغراض تجارية، والذي يحظر على الشركات جمع وإعادة مشاركة بيانات الوجه لتحديد أو تتبع الأفراد دون موافقتهم.
وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، هناك دعوى قضائية حول استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الشرطة البريطانية، كما أصدر البرلمان الأسترالي أمرًا بالوقف الكامل لاستخدام قاعدة البيانات القومية للتعرف على الوجه.
4- التأثيرات المناخية والرعاية الصحية
أضحت صناعات الذكاء الاصطناعي تشكل مجالاً مثيرًا للقلق خاصة فيما يتعلق بالتأثيرات المناخية، حيث أوضح التقرير أن هناك المزيد من الأبحاث التي كشفت عن حجم الأضرار التي يتسبب فيها الاستثمار المتزايد في صناعات الذكاء الاصطناعي وتطويره وانعكاساتها السلبية على التغيرات المناخية.
حيث إن إنشاء نموذج واحد فقط من الذكاء الاصطناعي، يمكن أن ينبعث منه ما يصل إلى (600 ألف) رطل من ثاني أكسيد الكربون. الأمر الذي يستدعي إجراء الحسابات والإفصاح العلني عن التأثيرات البيئية المتوقعة لتلك الصناعات، كما يجب على الحكومات أخذ نتائج هذه الحسابات في الاعتبار عند تبني أي استراتيجية لإدماج الذكاء الاصطناعي في المجالات المختلفة.
أيضًا، أثار التقرير أن استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات الصحية من خلال بعض التطبيقات مثل (Apple Watch) و(Fitbits) أصبح تترتب عليه أضرار تتعلق بحقوق المرضى في عدم الإفصاح عن البيانات الخاصة بهم ومراعاة أبعاد الخصوصية، كما استعرض التقرير بعض المخاوف المرتبطة ببعض التحيزات أو الأخطاء التي يتعرض لها المرضى نتيجة لاعتماد وتأثير أدوات الإدارة الصحية الخوارزمية وكيفية تعاملها مع بيانات المرضى ورفاههم وحياة من يهتمون بهم.
وفي السياق ذاته، طرح التقرير أهمية أن تضع الدول قوانين موسعة لحماية خصوصية البيانات البيومترية للمواطنين، واستخدامها سواء من قبل الجهات الفاعلة العامة والخاصة. وتشمل البيانات الحيوية للمواطنين مجموعة كبيرة بداية من الحمض النووي إلى بصمات الوجوه، وهي في صميم أنظمة الذكاء الاصطناعي.
وقد استعان التقرير بقانون خصوصية المعلومات الحيوية (BIPA) في ولاية إلينوي، باعتباره واحدًا من أقوى وأنجع قوانين حماية الخصوصية في الولايات المتحدة الأمريكية. حيث يسمح للأفراد بمقاضاة أي جهة تستخدم بياناتهم البيومترية بدون ترخيص، حيث قد تستخدم تلك البيانات في أعمال المراقبة والتتبع والتنميط عبر التعرف على الوجه.
كما يشكل ذلك القانون وسيلة للحماية ضد الأسواق الرمادية والسوداء التي تبيع البيانات الحيوية الخاصة بالأفراد، ومن ثم تجعلهم عرضة للانتهاكات والاستغلال. كما أضاف التقرير أنه ينبغي على الدول أن توسع من نطاق ذلك القانون ليشمل حماية الأفراد من الاستخدام المسيء من جانب الحكومات.
5- سيطرة شركات القطاع الخاص على البنى التحتية التكنولوجية
سيطرة شركات القطاع الخاص، حيث تبين أن تلك الشركات تسعى من خلال إجراء المزيد من الأبحاث وتطوير التكنولوجيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي والاستعانة بها من قبل الدول في إرساء البنية التحتية التكنولوجية، الأمر الذي ينطوي على أبعاد خطيرة تتعلق بسيطرة تلك الشركات على المفاصل الحيوية للدولة، وكذلك خطر ترك القرارات حول هذه القضايا في أيدي عدد صغير من الأفراد والشركات، الذين تتعارض دوافعهم ووجهات نظرهم العالمية مع مصالح أولئك الذين يتحملون عواقب مثل هذه القرارات.
أيضًا، تعكس المدن الذكية بعدًا آخر يتعلق بتحكم الشركات التكنولوجية وامتلاكها المزيد من السلطة في مختلف جوانب الحياة المدنية للمواطنين، مما يجعلها مسؤولة عن إدارة كافة الموارد والمعلومات الحيوية الخاصة بتلك المدن.
ومن تلك المشروعات مشروع (Google Sidewalk Lab) في مدينة تورنتو في كندا، حيث تم إنشاء درجة ائتمان خاصة بكل مواطن يتم إدارتها من قبل الشركة، كجزء من خطتها للشراكة بين القطاعين العام والخاص.
كما قامت أمازون بتسويق "رينج"، وهي كاميرا فيديو للمراقبة المنزلية مدعمة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، من خلال إقامة الشراكات مع أكثر من (700) قسم شرطة، حيث تم الاستفادة من تلك الشراكة في إقناع السكان بشراء الكاميرات. وفي المقابل، تم منح جهات إنفاذ القانون سهولة الوصول إلى تسجيلات المراقبة التي يتم التقاطها وتخزينها بواسطة تلك الكاميرات.
وهنا يلاحظ أن الشركات التكنولوجية العملاقة مثل أمازون، ومايكروسوفت وجوجل تبذل قصارى جهدها، للاستحواذ على العقود الحكومية لإدماج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات لتعزيز سيطرتها على البني التحتية التكنولوجية داخل الدول وخارجها، ومن ثم امتلاك البيانات الضخمة التي تؤهلها للاستفادة منها سواء من الناحية التجارية أو تطوير تطبيقاتها.
وقد تمثلت التوصية الأساسية التي تبناها التقرير في ذلك السياق في ضرورة تبني إطار تشريعي ينظم ويمنع تغول كل من الحكومات والقطاع الخاص في أنماط مختلفة من مراقبة المواطنين. هذا بالإضافة إلى إرساء قواعد الشفافية والمساءلة المنظمة لتلك الأنماط، وقواعد الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص.
6- سباق تسلح الذكاء الاصطناعي
احتلت قضية "سباق تسلح الذكاء الاصطناعي" الذي انطلق بين كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية- وبدرجة أقل روسيا- موضع الصدارة هذا العام، حيث اهتم عدد لا بأس به من الدراسات بالكشف عن مكانة الذكاء الاصطناعي في استراتيجيات كلا الدولتين، وكيفية إدماجه في المجال العسكري وتطوير الأسلحة المعززة بالذكاء الاصطناعي.
وفي حين تتمتع الصين بأفضلية تحقيق ذلك التكامل المدني- العسكري، حيث تٌقبل شركات التكنولوجيا الصينية على العمل في مجال الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تواجه العديد من التحديات مع شركات وادي السيليكون التي ترفض الدخول في ذلك القطاع، حيث أعلنت شركة جوجل مؤخرًا عن إيقافها التعاون مع البنتاجون ضمن مشروع (MAVEN) للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي.
كما أنها ما زالت تتخذ خطوات حذرة في الاعتماد الكامل، وتضمين الذكاء الاصطناعي في المنظومة العسكرية.
وختامًا، قدم التقرير الحالي الوجه الآخر لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ففي حين تركز العديد من التقارير والدراسات على المزايا التي تطرحها استخدامات الذكاء الاصطناعي ومجالات ذلك الاستخدام، فإن التقرير الحالي عُد بمثابة صافرة إنذار للتحديات التي تطرحها تلك الاستخدامات، هذا بالإضافة إلى ما قدمه من توصيات جادة في سبيل مواجهة تلك التحديات بما يعظم من الاستفادة المجتمعية من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ويحد من تداعياتها السلبية.