"بورتريهات" الفيوم ... وجوه راحلة تنبض بالحياة
وجوه الفيوم واحدة من أجمل الأعمال الفنية الكلاسيكية ، لها خصوصية فنية وتاريخية فريدة، وأغلب هذه الصور موجود حاليًا في المتحف المصري بالقاهرة والمتحف البريطاني بلندن، ومتحف البيورليتان.
وجوه الفيوم أو "بورتريهات الفيوم " ليست فقط إحدى الفنون المصرية الخالصة ، ولكنها أيضا من أجمل الأعمال الكلاسيكية العالمية، تنتمي لمدرسة خاصة ظهرت في مصر في منطقة الفيوم، امتازت بخروجها على الإطار المصري القديم المألوف، خاصة مع انفتاح مصر على العالم الخارجي في ظل الحكم الروماني.
تمتاز " وجوه الفيوم" كما يقول الدكتور/ عبدالرحمن السروجي فى كتابه "وجوه الـفيـــــُّـــوم: بداية فن اللوحات" بتصوير الشخصيات تصويرًا واقعيًا وطبيعيًا، ورُسمت بأسلوب معين لا تخطئه العين، فياضة بالمشاعر الإنسانية، وإن كان أغلبها حزينًا منقبضًا وهذا التلاحم بين وجوه الفيوم والمومياوات وسمها بروحية غريبة، كما اتسمت الوجوه المليئة بالحيوية بنظرتها الهادئة والخالدة وتنبع الروعة والإبهار وقوة التأثير، إلى جانب براعتهم في استخدام بعض المتناقضات، مما جعل لوحاتهم تفيض بعمق المعنى، وقوة التأثير، والقدرة على إثارة الخيال".
يرجع اسم لوحات الفيوم إلى أن أكثر هذه البورتريهات عُثر عليه في الفيوم، وقد ظهرت للمرة الأولى في النصف الأول من القرن الأول الميلادي، حيث اكتشف العالم الأثري " فلندرز بتري" في تنقيبات هوارة عن 146 مومياء ذات رسوم شخوص بورتريهات، بالإضافة إلى منطقة " الشيخ عبادة " ، وأغلب هذه الصور موجود حاليًا في المتحف المصري بالقاهرة والمتحف البريطاني بلندن، ومتحف البيورليتان.
وعن كيفية وصول هذه اللوحات " حوالى 1000 لوحة " الى أوروبا يقول دكتور/ السروجي " حصل المتحف البريطاني على ثلاث صور من مجموعة "هنري سالت " في أوائل القرن الماضي، ثم وصلت ست أخرى من هذه المجموعة إلى متحف اللوفر، وقد اكتشف مجموعة أخرى كبيرة من هذه اللوحات تاجر الآثار النمساوي" تيودور جراف" عام 1887؛ إذ جمع حوالي 300 لوحة من منطقة الروبيات شمال شرق الفيوم، وهذه المجموعة موزعة حاليًا على متاحف ومجموعات خاصة".
يمكن تأريخ هذه اللوحات لارتباطها بمدينة الامبراطور هادريان عام 120م، كما يمكن تاريخها عن طريق قطع البردي التي عثر عليها مع المومياوات وترجع إلى العصر الروماني ، أيضا من خلال التفاصيل الفنية للرسومات مثل طريقة تصفيف الشعر، لان شكل الشعر فى الصور تأثر بأسلوب الشعر الذى كان سائدا بواسطة أفراد العائلة الامبراطورية فى روما ، وكان يقلد اولا فى مصر او فى الولايات التابعة لروما وكذلك من اللحى للرجال والحلى للسيدات وطرق التطريز الملابس المختلفة.
الهدف من رسم هذه البورتريهات كما يقول د / عزت زكي حامد أستاذ الآثار اليونانية الرومانية جامعة الاسكندرية " على الرغم من انه طراز البورتريهات ينتمي إلي العالم الهللينيستي، الا ان الغرض الذي تم من أجله تنفيذ البورتريهات كان لصالح العقيدة والطقوس المصرية لاسيما العادات الجنائزية، لذلك كانت تقام عملية التحنيط للمحافظة على جسد الموتي وكانت تزود المومياء بتمثال يحفظ ملامح الوجه، وصور الفيوم اخر تطور لهذه الفكره وكانت اللوحة الجزء المتمم للمومياء".
أصحاب هذه البورتريهات غير معروفين، حيث لم تظهر أسمائهم على اللوحات، ولكن كما يقول د/ السروجي انهم " مجموعة كانوا عنصرًا من مجتمع مصر الرومانية، ويستدل من الملابس والحلي على أنهم أثرياء من عائلات هلنستية، بعضهم من الذين استقروا حديثا في مصر، وكانوا يملكون أراضي زراعية أُهديت إليهم نظير خدماتهم، وبعض العائلات كانت في الأصل يونانية أو مقدونية، وبعضهم هاجر إلى مصر ليعملوا موظفين، أوجنودًا، أو تجارًا بعد فتح الإسكندر الأكبر لمصر عام 332 قبل الميلاد، وبقوا في مصر، وكانوا يعيشون في كل أنحاء مصر.
معظم هذه الصور مرسومة على الواح خشبية، وأخرى مرسوم مباشرة على الفائف الكتانية التي كان يلف بها المومياء، وهي شائعة أكثر مع موميوات الأطفال أكثر من البالغين، وكانت ترسم على الخشب الرقيق، أو القماش السميك متوسطة الحجم تميل إلى الاستطالة، وكانت اللوحات الخشبية التي ترسم عليها الوجوه تتخَذ عادة من شجر السرو، أو الجميز، أو الليمون، بسُمك لا يتجاوز سنتمترًا، وطول حوالي 42 سنتمترًا، وعرض حوالي 22 سنتمترًا .
وعن الأسلوب الفني المتبع لعمل اللوحات يقول د/ زكي " كان يتم اضافة طبقة من المصيص المخلوط بالجبس على اللوحة، وتكون طبقة المصيص ناصعة البياض، او تكون احيانا ملونة بظلال خفيفة من الصبغة ، كما كان يستخدم خليط من الحجر الجيري الأبيض ومادة صمغية لتكوين نوع من البلاستر، لكي تكسي بها اللوحات قبل تلوينها، ويكون المصيص المستخدم كخلفية ناعم وسريع الجفاف".
كانت الصبغات او المواد الملونة اما ترابية او مواد مستخرجة من النباتات مثل نبات الفوة الذي يستخرج منه اللون الأحمر ، وكان الصمغ يستخرج من شجرة السنط ويضاف اليه الماء، واستخدم الفنانون فى تحضير الألوان المستخدمة فى رسم اللوحات ثلاث طرق هي : التمبرا باستخدام بيض وصفار البيض – الألوان الشمعية- ألوان التمبرا الممزوجة بشمع العسل".
ويعتقد أن شمع العسل كان يُنقى بالتسخين، ويُستعمل بعد خلطه بمادة التلوين، ثم يُرسم به وهو ساخن باستخدام فرش ربما كانت مصنوعة من ألياف النخيل. وفى مناخ مصر الدافئ لم تكن هناك صعوبة كبيرة في وضع الشمع الملون في طبقة دقيقة رفيعة مستوية فوق سطح اللوحة مع تحريك الفرشاة حركة كاملة بحُرية، كي ينجز الفنان عمله سريعًا.