"بائع" فرهادي يكشف زيف المجتمع الإيراني
المخرج الإيراني أصغر فرهادي، الفائز بجائزة الأوسكار للمرة الثانية على التوالي، يكشف زيف المجتمع الإيراني بفيلمه "البائع".
فاز المخرج الإيراني أصغر فرهادي بجائزة الأوسكار للمرة الثانية على التوالي عن فيلمه "البائع"، ليدخل تاريخ تلك الجائزة من أوسع أبوابه مع كبار مخرجي الفن السابع.
وقد سبق له الفوز بجوائز من مهرجاني برلين وكان عن أفلام سابقة.
هذا الأصغر فرهادي، وهو ليس أصغر في شيء، أثبت انتمائية ونسبه لعملاقة الفن السابع الإيراني أمثال الراحل كيروستامي، ومخملباف، ومجيدي، والمخرج المسجون جعفر بناهي الذي مازال يبدع من خلال محبسه الذي حددت فيه أقامته جبريا من قبل السلطات الإيرانية.
تلك السينما العريقة التي تعتمد على كنز مبدعيها، بالرغم من الرقابة والقمع، بل وحتى السجن والمنع من العمل، والذي تمارسه سلطات هذا البلد ضد المبدعين.
ويمتلك فرهادي، شأن من سبقوه من المبدعين، ناصية السرد السينمائي، والكتابة السينمائية، التي قد تبدو سهلة بسيطة متدفقة ولكنها محكمة تحوي في داخلها الكثير من المعاني والرموز، تتخطى بها الرقابة الحكومية، ورقابة العقول التي يفرضها النظام بتزمته وانغلاقه.
هنا مع "البائع" يدخلنا فرهادي لعالم أرثر ميلر، الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير الذي كان يرى في الستينيات أن الحلم الأمريكي ليس سوى سراب بالنسبة للكثيرين من الأمريكيين، وبالتحديد مع مسرحيته "موت بائع جوال".
الفيلم يبدأ بانهيار منزل الزوج والزوجة نتيجة لأعمال الحفر من أجل إنشاء برج سكني جديد، في إشارة إلى ما يفعله المضاربون العقاريون في المدن الإيرانية من انهيار.
يصبح الزوجان في الشارع عمليا من بعد تصدع منزلهما، إلى أن يجد لهما مدير الفرقة المسرحية التي يعملان بها منزلاً فوق أسطح أحد المنازل، لكن مشكلة هذا المنزل أنه مسكون بروح الساكنة السابقة التي كانت تزيد من دخلها عن طريق زيارات لرجال يأتون في زيارات سرية لها.
في تسلسل سردي رائع وسلسل دقيق التفاصيل يجعل الفيلم أحد زبائن الساكنة القديمة يزور المنزل ليعتدي على الزوجة وهي تستحم.
فبطل مسرحية ميللر بائع جوال يحمل سلعته ليدور على البيوت محاولاً البيع، ويدرك مدى احتقار المجتمع لمهنته، حيث يقول إنه يمر أمام الناس وكأنهم لا يرونه، ولكنه يحاول توفير النقود من أجل شراء منزل العائلة الذي يحلم به هو وزوجته كأي أمريكي متوسط.
وعندما تنهار صورته أمام ابنه، كأب مكافح، من بعد اكتشاف ابنه علاقاته النسائية وخيانته لأمه، لا يتحمل هذا الشرخ وينتحر، لتقف زوجته أمام نعشه لتعلمه أنهم قد انتهيا من دفع أقساط المنزل الذي طالما حلما به، ولكنه لم يدخله سوى جثة في تابوت.
كذلك بطلنا المدرس المثقف والممثل المسرحي، يجن جنونه من بعد حادثة زوجته، ويبحث عن الفاعل، ليجد في النهاية أنه رجل كبير في السن، وللمصادفة يعمل كبائع متجول أيضا، ويهدده بفضحه أمام زوجته وابنته وخطيب ابنته، قلب الرجل المسن لا يتحمل ويصاب بأزمة قلبية.
بعد حضور زوجة المدرس وتهديدها له بأنها ستتركه إن فضح هذا الرجل أمام أسرته، يكتفي بأن يصفعه صفعة قوية تحط من كرامته، ليصاب من جديد بأزمة قلبية، يتركنا الفيلم دون نعرف ما هو مصيره، وهل سينجو من الأزمة القلبية أم لا؟ هذا البائع الجوال الإيراني مات، أم هو على شفا الموت، خوفا من الفضيحة، مثله مثل بائع آرثر ميللر الجوال الذي انتحر.
وإذا كان مجتمع أمريكا يحاول الحفاظ على صورة العائلة الأمريكية المحافظة المتماسكة، بالرغم من زيفها، فإن المجتمع الإيراني كذلك.
فأهم شيء هو عدم الفضيحة، والحفاظ على الصورة مهما كان زيفها، نفس الأمر مع بطلنا المدرس الذي خضع لزوجته ولم يبلغ الشرطة بالواقعة، خوفا من الفضيحة، فهذا المجتمع الذي تحكمه شعارات التدين المعتمدة في جزء كبير منها على قمع المرأة، هو مجتمع مزيف، أفراده يتحرشون ويقيمون علاقات غير شرعية، لكن المهم أن يكون ذلك في الخفاء.
كما أن الفيلم من خلال سيناريو فرهادي يحيلنا إلي قضية مهمة من قضايا المجتمعات الشرقية، وهي قضية مطالبة المجتمع لكل المتزوجين بالإسراع في إنجاب الأولاد، عندما يسأل مدير الفرقة المسرحية عن مدى صدق حمل الزوجة، ولكنه على الجانب الآخر يوضح عبر لمحات عديدة عدم بذل أي مجهود من قبل الأبوين في تربية هؤلاء الأولاد.
وضح ذلك مع الممثلة المسرحية المطلقة التي تصطحب طفلة أثناء العروض لوقت متأخر، ومن السيدة محترفة أقدم مهنة في التاريخ التي كانت تسكن قبلهم في المنزل مع طفلها، حيث كانت تستقبل زبائنها في نفس البيت الذي كان يعيش فيها طفلها، بل وكانت تطلب الهدايا من زبائنها للطفل.
وبالطبع مشاهد مشاغبات تلاميذ الأستاذ في الفصل تصب في نفس الاتجاه.
وضح الفيلم مدى زيف المجتمع الإيراني، ومدى اختلاف الصورة الأخلاقية الدينية التي يفرضها النظام على الجميع عن الواقع الفعلي، وبالطبع فإن المرأة هي الضحية في كل الأحوال، فهي تقمع من قبل نظام وتستباح من قبل مجتمع.
جاءت نهاية الفيلم في المشهد الختامي خير معبر عن رسالته حيث نرى الزوج والزوجة وهم يضعان مساحيق المكياج في غرف ممثلي العرض المسرحي، ليكشف أن التمثيل ومساحيق التجميل ليست على خشبة المسرح فقط، بل في الواقع الفعلي لمجتمع مماثل أيضا، أهم شيء أن نظهر في أحسن صورة، أن تمثل الصحة وأنت مريض، وأن تمثل القوة وأنت مدمر، المهم أن نستمر في التمثيل.