من دمر مشروع بغداد النووي؟.. عالم ذرة عراقي يبوح لـ"العين الإخبارية" بالأسرار
منذ 7 عقود بدأ العراق مشروعه للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والآن وصل إلى نقطة الصفر.. ما الذي حدث لحلم تحول إلى كابوس في 69 عاما؟
رغم أن العراق كان من الدول السباقة في مجال الطاقة الذرية على مستوى المنطقة، فإن الحروب والأزمات السياسية قد نسفت منشآته بالكامل مما انعكس على تراجع صناعته وقدراته العلمية ونشاطاته التصنيعية على المستويات كافة.
تسبر "العين الإخبارية"، ملف الطاقة النووية في العراق مع العالم الذري حامد الباهلي، الذي يعد واحدا من أهم الأسماء في ملف الطاقة النووية.
يمتلك الباهلي خبرة ميدانية في مجال الطاقة النووية تتجاوز الـ6 عقود، ولديه نحو 300 بحث في مجالات الطاقة النووية، ونشر وترجم أكثر من 27 كتابا في تخصصه، ومن أهم مؤلفاته: الأسلحة النووية والوقاية منها، المنشآت النووية، الثرمودايتمك، مدخل إلى الهندسة النووية، الصواريخ المقاتلة.
- وزير سابق يفضح مؤامرة إيرانية لإبقاء كهرباء العراق تحت رحمة طهران
- بدعم إماراتي وخبرة أمريكية.. العراق على أعتاب حل أزمة الكهرباء
يستهل الباهلي ذو الثمانين عاماً، حديثه بالتأكيد على أن بدايات النشاطات الذرية في العراق تعود إلى عام 1952، إبان الحكم الملكي آنذاك، حيث كانت هناك مختبرات بسيطة للنظائر المشعة المستوردة التي كان يجري التعامل معها تقنياً بغية الاستفادة منها في مجالات الطب والزراعة.
وبعد نحو عامين، من ذلك التاريخ، أنشأ العراق معهدا للنظائر المشعة وقد تم افتتاحه من قبل الملك فيصل الثاني، لافتا إلى أنه في عام 1956، تم تأسيس منظمة الطاقة الذرية.
يشير الباهلي إلى أن تاريخ العراق في ذلك المجال لا يتشابه مع حاضره المدقع بالتخلف العلمي وفقر التطور التقني المحلي.
وتعود بدايات إنشاء أول مفاعل نووي في العراق إلى عام 1959، إبان حكم عبد الكريم قاسم بعد أن أبدى الاتحاد السوفيتي حينها عرضاً بتنفيذ ذلك المشروع، إلا أن ذلك لم يتحقق إلا بعد نحو 9 أعوام، بسبب الأحداث السياسية التي عاشها العراق إبان العقد الستيني والتي رافقت وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963.
مفاعل تموز
في سبتمبر/أيلول عام 1968، كان العراق على موعد مع مفاعل "تموز"، حيث كان الباهلي أول من كبس زر التشغيل بمعية رفيق دربه العالم النووي محمد تقي الشيخ.
يستذكر الباهلي تلك اللحظات، حيث كان قد جرى تشغيله بصورة اضطرارية لكون أن العراق حينها لا يملك الكوادر المؤهلة لإدارة ذلك المفاعل مما اضطره للتناوب مع تقي الشيخ على تشغيل "تموز".. مستدركاً بالقول "أعدادنا كانت لا تتجاوز الخمسة أشخاص".
وبلغت كلفة إنشاء مفاعل "تموز"، الذي يقع عند منطقة "التويثة"، في العاصمة بغداد، نحو 500 مليون دولار حينها وكانت طاقته التصميمية بسعة 2 ميجا قبل أن يتم تطويره بعد نحو عشر سنوات ليصل إلى حدود 5 ميجا.
يوضح الباهلي أن المفاعل النووي "تموز"، مصمم لأغراض العمل السلمي ولا يصلح نهائياً لأي أغراض عسكرية بعكس ما يتم تناقله من روايات وأحاديث بين بعض العامة من الناس. ويلفت إلى أن العراق، وتحديداً عام 1972، استطاع إنتاج وتصنيع النظائر المشعة لأول مرة في تاريخه.
والنظائر المشعّة هي نظائر العنصر الكيميائي. ولدى هذه النظائر فائض من الطاقة تُطلقه في شكل إشعاعات. وهذه النظائر يمكن أن تنشأ بشكل طبيعي أو أن تُنتَج اصطناعيًّا، أساساً في مفاعلات البحوث والمعجّلات. وتستخدم النظائر المشعّة في مختلف المجالات، بما في ذلك الطب النووي، والصناعة، والزراعة، والبحوث.
مفاعل أوزيراك 1 و2 الفرنسي
في منتصف العقد السبعيني، سعى العراق إلى إنشاء محطة كهرو نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية على أن يجري تنفيذها من قبل شركة فرنسية وقد وافق الأخير على ذلك إلا أنه بعد نحو عامين استبدلت المحطة بمركز كبير للطاقة الذرية، كما يوضح الباهلي.
ويشير إلى أن "الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان يشغل حينها منصب النائب، لديه إصرار كبير على إنشاء محطة كهرونووية، وقد قام بزيارة إلى فرنسا والتقى خلالها مع جاك شيراك، وحصل على الموافقة بإنشاء ذلك المشروع.
ويتابع بالقول، أن "الجانب الفرنسي وتحديداً عام 1977، قد تراجع عن إنشاء المحطة وقدم عرضاً أكثر أهمية إلى العراق لإنشاء مركزاً للطاقة الذرية لإنتاج النظائر المشعة يتكون من مفاعلين أحدهما بطاقة 400 ميجاوات والآخر بسعة 40 ميجاوات، فضلاً عن فرن حراري ومختبرات كبيرة".
استغرق العمل في إنشاء ذلك المركز العملاق كما يصفه الباهلي، نحو 3 أعوام، وكانت تجري مجموعة من الاختبارات بغية الشروع بتشغيله إلا أنه حدث ما لا يقع في الحسبان لينتهي المشروع إلى "كوم أنقاض"، على حد تعبيره.
ويكشف الخبير النووي الباهلي، تفاصيل ما جرى حينها، قائلا إن استلام المفاعل وتشغيله يتطلب إجراء 11 اختباراً ، منها خمس قبل التشغيل و6 ما بعد ذلك. كان العراق قد وصل إلى الاختبار الثامن لتشغيل المفاعلين اللذان حملا اسم "مفاعل تموز 1 و2"، فيما كانت تطلق عليه الشركة الفرنسية المنفذة "أوزيراك".
يتحدث الباهلي عن تفاصيل هذه الليلة، واصفا إياها بأنها "لن تنسى "، قائلا: "وقعت في الـ7 من يونيو/حزيران عام 1981، حين أغارت ثماني طائرات إسرائيلية على المفاعل بثمانية صواريخ أحالت المفاعل إلى أكوام من الأنقاض.
يقول الباهلي إن "المفاعل جرى قصفه بالطائرات الإيرانية قبيل الغارة الإسرائيلية بنحو شهور".
وبشأن الأسباب التي تقف وراء ذلك، يقول إنه "كان يجري حديث أن العراق بصدد إنتاج رؤوس نووية مما دعا إسرائيل إلى ضرب المفاعل، فيما أن تموز 1 و2 وبحسب التصاميم الموضوعة لا يمكن اعتمادها في مجالات عسكرية نهائياً".
مفاعل 14 تموز يقتل بضربة أمريكية
بعد نهاية الغارة تبين أن المفاعل الكبير "تموز 1" قد دمر بالكامل، وتداعى جزء كبير من المفاعل الآخر الصغير. فيما بعد سعت السلطات العراقية إلى البحث عن منافذ أخرى لتكرار التجربة النووية، وقد جرى الاشتغال على تطوير مفاعل تموز الذي أنشأ في نهاية العقد الستيني وما تبقى من تموز 2.
وفيما كان العراق يعيد تلك المنشآت ويعمل على تطويرها جاءت الأحداث السياسية لتضع آثارها ليس على الملف النووي فحسب، وإنما على كل الجوانب المختلفة بعد غزو نظام صدام حسين إلى الجارة الكويت.
في الثانية بعد منتصف الليل من يوم الـ17 من يناير/ كانون الثاني عام 1991، كان الباهلي قد توجه عبر سيارته الشخصية إلى مفاعل 14 تموز، حين التقط أنباء عبر إذاعة أجنبية ببدء هجوم صاروخي من قبل قوات التحالف الذي تترأسه الولايات المتحدة.
توقع الباهلي أن يتم ضرب المفاعل "14 تموز"، قائلا: "ولكن كانت الخطورة تكمن في الإسراع بنقل الوقود النووي خشية وصول نيران القصف إليه وما قد ينجم عن ذلك من كارثة بيئية وبشرية كبيرة تتجاوز حدود العراق وتمتد إلى دول المنطقة".
حين وصوله، كانت النيران تستعر في المفاعل النووي على مقربة منه كبار المسؤولين في الدولة العراقية حينها. يقول "استعطت وبرفقة عالم آخر من إنقاذ الوقود النووي عند اللحظات الأخيرة ومنعت كارثة كبيرة".
تسببت تلك الضربات بإلحاق أضرار بالغة في ذلك المفاعل ولم يسمح للعراق بمزاولة نشاطه النووي بعد ذلك، استناداً على قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 487، الذي جاء على خلفية اجتياح الجيش العراقي للجارة الكويت وما ترتب عليه من عقوبات بعد عمليات التحرير.
العراق النووي ما بعد 2003
طوي ملف العراق في مجال إنتاج الطاقة النووي وتشغيل تلك المنشآت، حتى عام 2003، ورغم أن القرارات الأممية التي تحظر بغداد من معاودة نشاطها قد أصبحت لاغية، إلا أن حديث العودة يخفت تارة ويظهر تارة أخرى.
في هذا الصدد يتوقع الباهلي، "إذا ما كانت هنالك مساعد جادة ومدروسة، أن يعيد العراق إحياء المفاعل النووي في مدة لا تتجاوز العام الواحد".
ويؤكد: "لدينا كوادر تمتلك إمكانات كبيرة، بعضها أحيل إلى التقاعد، فيما آخرون يعملون في أوروبا وأمريكا، وقسم لا يزال في العراق، ومن الممكن الاستعانة بخبراته لتدريب الكوادر الجديدة من الشباب، لأننا لو لم نستعن بهم حالياً سنخسرهم لا سيما أنهم في آخر سنين حياتهم".
وأعلنت الهيئة العراقية للسيطرة على المصادر المشعة، في مطلع الشهر الحالي، عن خطة لبناء 8 مفاعلات ذرية قادرة على إنتاج حوالي 11 جيجاوات من الكهرباء من خلال الاستعانة بخبرات أجنبية.
وبشأن إمكانية تحقق ذلك، يقول الباهلي، أن "كلفة المفاعل الواحد تتجاوز الـ200 مليون دولار وهو أمر ليس بالمستحيل على إمكانيات العراق، رغم الظروف الاقتصادية التي تعيشها جراء انخفاض أسعار النفط، ولكن إنشاء 8 محطات نووية أمر يجافي الواقع والأرقام والإمكانيات المتاحة ".
وحول الاستفادة من المنشآت النووية القديمة التي يمتلكها العراق، يشير العالم النووي إلى أنه "لا يمكن الانطلاق منها أو الاستفادة من بقاياها لكونها باتت بفعل الضربات العسكرية وعامل الزمن أكوام حديد ليس أكثر".
aXA6IDMuMTUuMjAzLjI0NiA= جزيرة ام اند امز