قبل أسبوعين تقريبًا، شهدت أستراليا حادثة مأساوية تمثلت في إطلاق نار استهدف احتفالًا يهوديًا بمناسبة عيد الحانوكا، وأسفر عن سقوط عدد من الضحايا الأبرياء.
وفي خضم هذه الفاجعة، برز موقف إنساني لافت لرجل مسلم أسترالي خاطر بحياته لحماية الحاضرين والتدخل لإنقاذ الأرواح، ولإنقاذ الإنسانية.
لم يكن هذا التصرف فعل شجاعة فردية عابرًا، بل تجسيدًا عمليًا لمعنى المواطنة الحقيقية والولاء الوطني القائم على القيم الإنسانية، لا على الانتماءات الدينية أو العرقية.
تؤكد هذه الواقعة أن الانتماء للوطن لا يُقاس بالدين أو الأصل أو الخلفية الثقافية، بل بالالتزام بالقانون، واحترام الإنسان، والولاء للوطن والقيم، والاستعداد لتحمّل المسؤولية في اللحظات الحرجة. ومن هنا، تتجاوز أستراليا هذه الحادثة بوصفها حدثًا أمنيًا، لتقدّم نموذجًا أوسع لفهم المواطنة في دولة متعددة الثقافات، حيث يتقدّم الولاء للدولة على أي انتماء فرعي.
وتُعد أستراليا من أوائل الدول التي صاغت مفهوم التعددية الثقافية بوصفه سياسة دولة ومشروعًا وطنيًا جامعًا، لا مجرد خطاب سياسي. فالتعددية الأسترالية تعني الاعتراف الرسمي والقانوني بتنوّع الأعراق والثقافات واللغات والأديان ضمن إطار مواطنة واحدة متساوية، تقودها ثقافة وطنية جامعة لا تتجزأ. فليس التنوع العرق والثقافي هنا يعكس "مجتمعات متوازية" تعيش بمعزل عن بعضها، بل تنوعًا متفاعلًا داخل دولة واحدة ذات سيادة وقانون.
وتكشف الخلفية التاريخية لهذا النموذج "التعددية الثقافية" أن أستراليا كانت حتى سبعينيات القرن الماضي خاضعة لسياسة "أستراليا البيضاء"، التي قيّدت الهجرة بالأوروبيين واستبعدت الآخرين. غير أن التحول الجذري بدأ عام 1973 مع إلغاء هذه السياسة رسميًا، واعتماد التعددية الثقافية كخيار استراتيجي، وفتح أبواب الهجرة أمام آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، ما أسهم في تشكيل مجتمع متنوع ديموغرافيًا وثقافيًا، دون التفريط بإطار المواطنة القانونية في بلاد تعد من كبرى الدول وتصنف بقارة.
إلا أن هذا النموذج لم يكن بمنأى عن التحديات، خصوصًا في السياق الغربي الأوسع، حيث تصاعدت النزعات الشعبوية والفاشية الساعية إلى فرض التشابه العرقي والثقافي، في تعارض واضح مع فلسفة التعددية. وقد أعاد ذلك فتح جدل عميق حول معنى المواطنة، فهل هي مجرد وضع قانوني تُمنحه الدولة، أم انتماء ثقافي وقيمي يُختبر بالسلوك والالتزام؟ كما تصاعد النقاش حول الهوية الوطنية في مقابل التعددية، في ظل تدفق المهاجرين واللاجئين، وصعوبات الاندماج الاجتماعي، وتنامي خطاب “المواطن الأصلي” في مواجهة "المواطن الجديد".
وتشير التجارب السياسية إلى أن الأنظمة الحاكمة هي نتاج تفاعل المجتمعات مع الإقليم والتاريخ، حيث تشكّل القوانين والتشريعات والأعراف ما يُعرف بـ"العقد الاجتماعي" الذي يحدد الحقوق والواجبات بين الدولة والمواطن. وفي المجتمعات المتعددة، لا يتحقق الولاء الوطني تلقائيًا، بل يحتاج إلى سياسات عامة عادلة، وتنشئة سياسية واعية عبر التعليم والإعلام، وتمثيل حقيقي لمختلف الفئات، وعدالة اجتماعية، وتنمية شاملة، ومشاركة سياسية فاعلة، إلى جانب مواجهة الأفكار العابرة للحدود التي تتصادم مع أمن الدولة وهويتها.
في عام 2025، تصدرت معضلة الدولة القومية المتجانسة، فرغم عدم وجود دولة متجانسة بشكل كامل، إلا أن تزايد فجوة التجانس بشكل كبير منذ بداية القرن الحالي جعلها معضلة معقدة في العديد من الدول، فالتنوع أضحى أكثر تنوعًا، وأكثر عرضة لضغوط داخلية تتعلق بالهوية والانتماء.
ومن الأسباب الرئيسية لهذه الفجوة تدفق الهجرة بسبب الحروب واتساع التفاوت الاقتصادي والبحث المهاجر نحو حياة أفضل. وتتزايد المشكلات بين المواطنة والولاء والمهاجرين عبر الثورة الرقمية، إذ إن وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي وسهولة الاتصال والتواصل أسهمت في تعميق الانقسامات الهوياتية، وتسهيل انتشار خطاب الكراهية، وإعادة تشكيل انتماءات عابرة للحدود، ما أضعف في كثير من الدول دور “الثقافة القائدة”، والتي كانت أكثر قوة وحضورًا في قيادة المجال العام وتحديد القيم واللغة الأساسية المشتركة، وقواعد العيش المشترك، وحدود الانتماء والولاء، مع السماح بتعدد الثقافات الفرعية داخل المجتمع.
وفي المحصلة، تثبت التجربة الأسترالية أن المواطنة ليست هوية جامدة، بل ممارسة اجتماعية وزمنية تقوم على احترام القانون، وصون الكرامة الإنسانية، وحماية السلم المجتمعي. فالتعددية، حين تُدار ضمن ثقافة وطنية قائدة واضحة المعالم، فهي لا تهدد الدولة والتنوع الثقافي، بل تعزّز تماسكها وقدرتها على الاستقرار، وتحصنها من الصراعات والأفكار المتطرفة العابرة للحدود. فالولاء الوطني نتاج تنشئة اجتماعية وسياسات عادلة ووعي مجتمعي ناضج، لا نتيجة الإقصاء أو الخوف من الآخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة