القرني خالف توقعاتي تماما ولم يشأ أن يمضي إلى النسيان دون وقفة اعتراف واعتذار شجاعة وهو يدرك جيدا أنه بذلك سيكون هدفا.
يستحق الداعية السعودي الشيخ عائض القرني الشكر والاحترام على اعترافه أخيراً بضلال وانحراف تيار الصحوة عن سماحة الإسلام، رغم أنه شخصياً يُعد رمزاً من أبرز رموزه، وهذه شجاعة لافتة ينبغي تقديرها، خصوصاً أن القرني لم يتوقف عند الاعتراف فقط بل تقدم باعتذاره علانية للمجتمع السعودي عن كل ما كابده هذا المجتمع من معاناة، بسبب تطرف وتسلط وعدائية تلك الصحوة المشؤومة.
شكري للشيخ القرني اليوم ليس مجاملة وإنما لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة، والتسامح أيضاً فضيلة أعظم، فقد ذهب الماضي ولن يعود، وحان الوقت أن ينظر الجميع بأعينهم وقلوبهم إلى المستقبل فقط.
قبل عام من اليوم أشرت في مقالة بعنوان «سرقوا حياتنا ومضوا للنسيان» إلى أنني من جيل جاء إلى هذه الدنيا في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعندما أقرأ تصريحات سمو ولي العهد الأمير المُلهم محمد بن سلمان في كل لقاء جديد عن العودة لما كانت عليه السعودية قبل عام 1979م وأشاهد التغيير الكبير الذي يحدث في المملكة، أتنهد بألم وأرثي حياتي وحياة أبناء جيلي التي ضاعت في غياهب الظلمات والتخلف والانفصال عن العالم.
جاءت «الصحوة الظلامية» التي سرقت أعمار السعوديين عام 1979م وتوفيت دماغياً عام 2017 م، ما يعني أنها قضمت من عمري 37 سنة بالتمام والكمال، أي التهمت أجمله (الطفولة والمراهقة والشباب) ولا أعلم ما الذي سوف أستفيده اليوم (على المستوى الشخصي) من انقشاعها سوى «لذة الشماتة بالعدو» وهي فائدة لا تساوي شيئاً في الواقع، لكن العزاء الوحيد الذي يمكن أن يخفف من حزني وحزن أبناء جيلي هو أن يشاهدوا الأمل في أعين أطفالهم ويطمئنوا على مستقبلهم الذي سيكون أفضل بسنوات ضوئية من الحياة «المعقدة والكئيبة» التي كُتبت لنا.
القرني خالف توقعاتي تماماً ولم يشأ أن يمضي إلى النسيان دون وقفة اعتراف واعتذار شجاعة، وهو يدرك جيداً أنه بذلك سيكون هدفاً لسهام وسياط أصدقاء الأمس وأعداء السعودية ورؤيتها الطموحة، لكن من ذا الذي يسلم من سهام الأعداء، فقد سبقناه إلى تلقيها بصدورنا لسنوات طويلة، وهنا ينبغي أن أذكّر بأننا ككتاب وإعلاميين ومثقفين عندما كنا نكتب قبل 15 و20 سنة عن أشياء عادية كأهمية الترفيه والفن في صياغة الوعي الاجتماعي، وضرورة الانفتاح على العالم ومحاربة التطرف في مناهج التعليم، ومكافحة فتاوى المتشددين التي حولت بلادنا إلى أضحوكة في وسائل الإعلام العالمية، كانت تنهال علينا اللعنات والشتائم في كل مكان، وكنا نوصف بالزنادقة والليبراليين والمتصهينين والتغريبيين، وقد نتعرض للوم من الجهات الرقابية، وربما الإيقاف عن الكتابة في الصحف، وكان أقرب الناس لنا يتوجس منا، ليس كرهاً لنا بل خوفاً من أن يلحق به بعض ما لحق بنا، ثم ها نحن اليوم نضحك على تجاربنا تلك ونحن نشاهد خصومنا صحويي الأمس وشاتمينا القدامى يرددون نفس حديثنا قبل 15 سنة كما هو بالحرف الواحد، ذلك لأن الحق لا بد أن يدمغ الباطل مهما طال الزمن أو قصر، والعزاء أن مستقبل أبنائنا وبلادنا ومجتمعنا سيكون أفضل وأجمل.
شكري للشيخ القرني اليوم ليس مجاملة وإنما لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة، والتسامح أيضاً فضيلة أعظم، فقد ذهب الماضي ولن يعود، وحان الوقت لأن ينظر الجميع بأعينهم وقلوبهم إلى المستقبل فقط.
نقلاً عن "عكاظ"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة