قد تكفي سهرة واحدة يقضيها الواحد منا أمام جهازه التلفزيوني لتقول له حجم الكارثة التي يعيشها العالم العربي في هذه الأيام.فما من سهرة اليوم إلا وتدور على وقع المجازر وضروب الدمار والخراب التي تعصف اليوم بأرجاء العالم العربي مادّة نيرانها إلى مناطق كثيرة من
قد تكفي سهرة واحدة يقضيها الواحد منا أمام جهازه التلفزيوني لتقول له حجم الكارثة التي يعيشها العالم العربي في هذه الأيام.فما من سهرة اليوم إلا وتدور على وقع المجازر وضروب الدمار والخراب التي تعصف اليوم بأرجاء العالم العربي مادّة نيرانها إلى مناطق كثيرة من العالم.
في وقت تعكس التلفزة بعض أكثر صنوف التدهور وغياب القيم وما يبدو أنه، حتى، غموض أكيد في صورة المستقبل. والصورة صحيحة بالتأكيد ولا سيما أن الحروب العربية/العربية والإسلامية/الإسلامية لا تترك مجالاً كبيراً للأمل...
ومع هذا قد يجازف المرء بمحاولة تخطّي هذا الذي يحدث الآن أمام أنظارنا ليتساءل عما يمكن أن يكون من بعده على اعتبار أن كل حدث تاريخي كبير، ومهما كان حجمه أو دمويته، لا يمكن أن يكون في نهاية الأمر سوى مرحلة انتقالية.
ولسنا نقول هذا في سبيل تلمّس بارقة أمل، بل في سبيل البحث عن موضوعية ما. فدروس التاريخ، الذي هو المعلم الأكبر، تقول لنا ببساطة ان ما يحدث في اللحظة الحاضرة، ليس هو بالضرورة ما سوف يحدث في اللحظات التالية. وبالتالي إن كان يمكن للعقل أن يشتغل بهدوء رغم كل شيء، لا بد له من أن يستقرئ التاريخ بحثاً عن موضوعية ما.
وقد يتطلب هذا، قبل أي شيء آخر، نوعا أليما من العضّ على الجرح. ولكن أولم يكن هذا ما فعله على مجرى التاريخ كل أولئك الذين آمنوا بالثورة الفرنسية حين تحولت إرهابا ومجازر؟ وما فعله مفكرو أيار 1968 في فرنسا وغيرها حين تحولت أعياد الشبيبة والحرية هزيمة شارك في اقترافها حتى أصحاب المصلحة في تلك الأعياد؟ لن نتجاوز هذين المثلين، فهما يكفيان حاليا لإيصالنا الى ما نريد قوله.
وهذا الذي نريد قوله لن يكون تنبؤاً ولا نوعاً من الأمنيات المقلوبة حقائق. بل مجرد رصد للحاضر على ضوء الماضي لنطلع من هذا بيقين فحواه أن ما من ليل بلا آخر.
أما الليل فلسنا نعتقد أنه نزل علينا من تلقائه. بل هو تلك الاستكانة التي ابقينا أنفسنا فيها خلال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن مرّت على استقلالاتنا. ولن نمعن في هذا السياق لأن ما يهمنا منه هو الإشارة الى الدمامل التي تفقأها هذه المرحلة الانتقالية وآلامها وصراعاتها.
ولن ندخل في هذه العجالة في التفاصيل. كل ما يمكننا هو أن نقول إن هذا الانكشاف كان من صنع كثر من العرب، لم يكفوا منذ عقود وعقود عن التنبيه من مغبة ما يحدث ويقولون بفنونهم وآدابهم وأفكارهم: كفى!! وليحلموا.
فهل علينا أن نذكّر بأن كلامهم كان، صرخة في الوديان وحلمهم تبخر في العواصف. وقد يبقى كذلك؟ ربما... وربما فقط إن هم استكانوا ولم يحركوا السلاح الذي يملكونه في وجه ما يحدث ومن يتسببون في حدوثه. والسلاح الذي نعنيه هو ذاك الذي ساد في لحظات الزهو والفرح القليلة في تاريخنا الحديث: الوعي.
كان الوعي هو البداية، وكان الوعي هو السلاح. فالوعي كان دائماً ولا يزال – وسيبقى – قادراً على أن يقول كلمته، وعياً وثقافة وتطلعاً نحو النزعات الإنسانية ونتاجات ثقافية تبدو اليوم ممكنة أكثر من أي وقت آخر.
ولا سيما في الإعلام وعلى شاشات التلفزة التي باتت، مع وسائل الاتصال الجماهيري والاجتماعي، قادرة على أن تخوض حربها الخاصة، الوحيدة الممكنة، والوحيدة التي يمكنها أن تنتصر حتى على جيوش القمع والظلام...
الوعي والوعي ثم الوعي أيها السادة! حين يتجسد فنوناً وآداباً وبرامج تعرف كيف تحمل قيماً أخلاقية وتدخل زمن العالم، وتصبح حتى انقلاباً شاملاً على كل ضروب التخلف والكسل الفكري، على مستوى هذا العالم العربي المترامي الأطراف... الوعي حين يتعامل مع الإبداع بكونه حصناً أخيراً في وجه الظلام، حين يعيد النظر في مسلماتنا وتواريخنا وما فعلناه بأنفسنا لا فقط بما فعلته «مؤامرات» الآخرين بنا،.
هذا الوعي متحوّلاً إبداعاً ودروساً، هو الوحيد الذي يمكنه، بعد، أن يحوّل ليلنا البهيم إلى فجر مضيء ليوصلنا إلى لحظة ندرك فيها أن شلالات الدم وأعاصير العنف وكل هذا الخراب المستشري على طول خارطتنا، لم يضع هباءً...
*نقلا عن جريدة "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة