تتالت القوانين التي أكدت الحقوق المتساوية للأمريكيين دون تمييز، لكنها لم تُغيِّر من ثقافة استعلاء البيض.
في يوم 25 مايو الماضي، شهدت مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية مقتل الشاب الأسود "جورج فلويد" نتيجة استخدام ضابط شرطة أبيض العُنف المُفرط عند إلقاء القبض عليه، وأدى ذلك إلى انفجار سلسلة من المسيرات والمُظاهرات في المدن الأمريكية لإدانة ما حدث باعتباره مظهراً من مظاهر التمييز العنصري ضد الأمريكيين السود، أو كما يُطلق عليهم "الأمريكيون من أصل أفريقي".
وبجانب السود الذين كانوا قوام هذه التظاهرات، فقد شارك فيها أيضاً أعداد كبيرة من الأمريكيين البيض إظهاراً للتضامن، ولبيان أن جريمة قتل هذا الشاب هي انتهاك لمبادئ الدستور والمُثل العُليا الأمريكية.
كانت هذه الجريمة هي "الشرارة" التي أطلقت هذه المشاعر الحبيسة من عِقالها، فقد حدثت بعد ثلاثة أشهر فقط من جريمة أخرى وهي مقتل "أحمد أربيري" في ولاية جورجيا، على يد أب وابنه أطلقا الرصاص عليه وهو يُمارس رياضة الجري في حي تسكنه أغلبية بيضاء، وتلكأت سُلطات التحقيق في توجيه الاتهام، فلم يصدر إلا يوم 7 مايو تحت ضغوط الرأي العام وبعد انتشار فيديو سجَّل الجريمة.
وتكرر المشهد في حادث مقتل جورج فلويد، فلعدة أيام لم توجِّه سُلطات الادعاء الاتهام لأحد ثُم اقتصر في البداية على ضابط واحد، وهو الذي ضغط بركبته على رقبة الشاب لمدة تسع دقائق بينما هو يستغيث "لا أستطيع التنفُّس"، وتم توجيه تُهمة القتل الخطأ للضابط، وباشتعال الموقف، تم تعديل التُهمة لتكون جريمة القتل العمد، والقبض على ثلاثة ضباط آخرين تابعوا المشهد دون أن يتدخلوا لمنع زميلهم المُتهم من إتمام فعلته.
فكيف نفهم ما يحدث؟ وما هي العوامل والخلفيات التي أوصلت المجتمع الأمريكي إلى هذه الدرجة من التمزُّق والانقسام؟
نُقطة البدء هي العودة إلى التاريخ، فخلافاً لكل الجماعات الإثنية واللُغوية والدينية في أمريكا اليوم والذين قَدِموا إليها طوعاً كمهاجرين رغبةً في تحقيق أحلامهم، فإن السود سيقوا إليها عُنوة مُقيدين بالأغلال، ولمُدة قرنين، لم يكن للسود حقوق شخصية أو قانونية فقد كانوا من مُمتلكات الأسياد البيض ولم تكن لهم حُرمة أو خصوصية، فعلى سبيل المثال، لم يكن من حق الأسود استخدام اسمه الأفريقي، وفُرض عليه الاسم الذي اختاره سيده له.
وأتذكرُ أن ملايين العرب تابعوا في نهاية الثمانينيات المُسلسل التلفزيوني الأمريكي "الجذور: ملحمة عائلة أمريكية" والذي اعتمدت أحداثه على رواية للمؤلف "أليكس هيلي"، وهو من الأمريكيين السود، صدرت عام 1976، قدَّم المُسلسل بشكل درامي عنيف ومؤثر أوضاع العبيد السود في أمريكا وذلك من خلال قصة حياة "كونتا كنتي" الشاب مفتول العضلات الذي اقتيد من أفريقيا ضمن مجموعة كبيرة من الرجال عام 1761، وتم بيعه لأسرة ثرية، وصوَّر المسلسل أن هذا الشاب هرب أكثر من مرة من مزرعة سيده طلباً للحرية وفي كل مرة ألقت الشرطة القبض عليه وأعادته، وعندما ضاق سيده ذرعاً به، قطع أحد قدميه حتى لا يتمكن من الفرار مرة أخرى.
تتالت القوانين التي أكدت الحقوق المتساوية للأمريكيين دون تمييز، لكنها لم تُغيِّر من ثقافة استعلاء البيض.
وكان من مظاهر كبريائه واحترامه لنفسه، رفضه الاستجابة لسيده عندما كان يُناديه بالاسم الذي اختاره له وهو "توبي"، فتم ربطه بالحبال وانهالت السياط عليه، وبين الحين والآخر، يسأله السيد "ما اسمك؟"، فيُجيبه: "كونتا كنتي" فتعود السياط بشكلٍ أشد حتى شارف الموت، فأجاب بصوت مُنخفض: "اسمي توبي"، فطلب منه السيد أن يُكرر إجابته مرة أخرى بصوتٍ مُرتفع حتى يسمعها جميع العبيد الذين جمعهم السيد لمُتابعة هذا المشهد، ولكي يُعطيهم درساً في جزاء من يُخالف أوامره.
استمرت العبودية كنظام قانوني بعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية عام 1783 وحتى فترة الرئيس السادس عشر للدولة وهو "أبراهام لينكولن" الذي شهد عهده محاولة بعض ولايات الجنوب الانفصال عن الدولة، فنشبت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) والتي أصدر خلالها -عام 1862- إعلاناً رئاسياً ثُم قراراً تنفيذياً بأن "جميع الأشخاص المُحتجزين كعبيد في المناطق المُتمردة، هم ومن الآن فصاعداً أحرار"، ثُم وافق على انضمامهم إلى قوات الجيش الأمريكي.
وفي عام 1870، وافق الكونجرس الأمريكي على التعديل الخامس عشر للدستور والذي أكد على حق التصويت في الانتخابات لجميع الأمريكيين، ولكن هذا الحق ظل نظرياً لم تُطبقه كثير من الولايات التي وضعت شروطاً مثل القُدرة على الكتابة والقراءة، ووجود حد أدنى من النصاب المالي مما أدى إلى عدم ممارسة السود لهذا الحق الدستوري.
انتهى قرنان من العبودية القانونية وبدأ قرن جديد من التمييز العنصري وعدم المُساواة في الحقوق، فلم يتمكن المُحرَّرون السود من ممارسة حقوقهم الانتخابية وحُرموا منها من الناحية الفعلية، وعملوا في أقل المهن دخلاً ومكانةً، فكانت لهم مدارسهم وكنائسهم وأحياءهم السكنية، ولم يكن مسموحاً لهم بارتياد الكثير من المطاعم والمتاجر إلا للقيام بأعمال النظافة فيها، واستمر هذا الوضع حتى بداية الستينيات من القرن العشرين، التي شهدت ظهور شخصيتين تاريخيتين لعبتا دوراً مفصلياً في حياة الأمريكيين السود.
الشخصية الأولى هي الرئيس جون كينيدي من الحزب الديمقراطي الذي تولى السُلطة في يناير 1961 وطرح رؤيةً أكثر حرية وانفتاحاً وإنسانيةً لمستقبل أمريكا تحت اسم "المجتمع العظيم"، تَفَهَّم كينيدي مشاكل السود وساعده في ذلك أنه انتمى إلى الأقلية الكاثوليكية في البلاد، وبعد أقل من شهرين، أصدر أمراً تنفيذياً بعنوان "التمييز الإيجابي" يؤكد فيه على التزام الهيئات الحكومية بالمساواة بين جميع المواطنين دون النظر إلى العرق أو اللون.
أما الشخصية الثانية، هي القِس "مارتن لوثر كينج" الذي رفع صوته بأوجاع الأمريكيين السود، ودعا إلى اندماجهم في المجتمع الأمريكي وتمكينهم من حقوقهم كمواطنين، حرص كينج على اتباع الأسلوب السلمي في دعوته، وخاطب ضمائر الأمريكيين، مؤكداً أنه يتحدث كأمريكي يؤمن بالمُثل العُليا والقيم الأمريكية، كان لوثر كينج خطيباً مُفوَّهاً، ووصلت كلماته إلى قلوب الملايين من مؤيديه السود والمُتعاطفين معهم من البيض، ومن أشهر خُطبه التي ظلت عالقة في الذاكرة الجماعية للبشرية "إني أمتلك حلماً" التي ألقاها في أغسطس 1963 أمام النُصب التذكاري للرئيس لنكولن بمدينة واشنطن العاصمة.
وكما اغتيل الرئيس كينيدي في مدينة دالاس بولاية تكساس في الجنوب عام 1963، اُغتيل لوثر كينج أيضاً عام 1968 في مدينة ممفيس بولاية كنتاكي في الجنوب الشرقي، ولكن موتهما لم يوقف حركة الحقوق المدنية، فصدر في عهد الرئيس ليندن جونسون قانون الحقوق المدنية في عام 1964 الذي حظر التمييز بين المواطنين عند تسجيل أنفسهم كناخبين، ثُم قانون التصويت عام 1965 الذي حظر ممارسات التمييز بين المواطنين عند ممارسة حقهم في الانتخاب، وكان الهدف من القانونيْن هو ضمان حق المواطنين السود في المشاركة في الانتخابات وأن يُصبحوا قوة مؤثرة في اختيار المرشحين.
تتالت القوانين التي أكدت الحقوق المتساوية للأمريكيين دون تمييز، لكنها لم تُغيِّر من ثقافة استعلاء البيض "white supremacy" القابعة في عقول الكثير من الأمريكيين وبالذات في ولايات الجنوب، استمرت هذه الثقافة بين قطاعات واسعة من رجال الشرطة، والتي أفصحت عن نفسها في الأساليب الفظة والقاسية في التعامل مع السود.
وترافق ذلك مع استمرار تدني الأوضاع الاقتصادية والتعليمية للسود الأمريكيين، تدل على ذلك عشرات المؤشرات الخاصة بالبطالة والدخل والتعليم والصحة ومتوسط عُمر الإنسان مما أوجد لدى أغلبية الأمريكيين السود مشاعر عميقة بالإقصاء والاضطهاد والظُلم، وتكفي الإشارة إلى أن عدد الموتى من مرض فيروس كورونا بين السود يفوق بكثير نسبتهم بين البيض.
لكل ما تَقَدَّم، ساد بين السود الاعتقاد بأن حياة الأمريكي الأسود أرخص من حياة الأمريكي الأبيض، وظهرت في عام 2013 حركة "حياة السود مهمة" “Black Lives Matter” وهو الشعار الذي رفعته المُظاهرات والمسيرات الراهنة في المدن الأمريكية وسُرعان ما تلقفته المُظاهرات المماثلة في عواصم العالم ومُدنه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة