أحداث العنف على الدوام في الداخل الأمريكي تؤدي إلى تبرئة رجال الشرطة الذين يصعدون عمليات العنف والإجرام ضد المدنيين
ما إن يواجه الأمريكيون ظروف الحياة القاسية التي نجمت عن تفاعلات النظام الدولي الجديد وحصول العديد من المتغيرات العالمية، حتى تبدأ النداءات والتساؤلات على الساحتين الأوروبية والأمريكية بل وفي عموم أنحاء الكرة الأرضية، وهذه التساؤلات المطروحة مفادها عما إذا كان عالم واحد أو حتى قارة موحدة هي فعلاً ما يتوقون إلى تحقيقها.
وهل تلك الرؤية على صعيد العالمية هي الخلاص المنشود للأوربيين والأمريكيين؟ من مختلف الصراعات التي غدت هائجة ومائجة عما يحيط بالأمريكيين من قضايا باتت تهدد استقرارهم، سواء ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية جراء انتشار فيروس كورونا أو إثارة المزيد من القضايا الشائكة المتعلقة بالقوانين الاجتماعية وبالحياة العامة في الولايات الأمريكية.
أحداث العنف على الدوام في الداخل الأمريكي تؤدي إلى حرق مئات المنازل ومقتل مئات الأفراد، وتبرئة رجال الشرطة الذين يصعدون عمليات العنف والإجرام ضد المدنيين، وتثير الاحتجاجات والأعمال المخلة بالنظام، وما يرافقها من إجراءات عنصرية جملة من التساؤلات داخل الولايات المتحدة وخارجها حول طبيعة النظام السياسي والقضائي والأخلاقي السائد في أمريكا والتي تفخر بنفسها في العالم المتمدن.
الولايات المتحدة أخفقت بشكل يائس في تحقيق حتى القليل من المساواة العرقية على الرغم من مرور عقود من صراعات الحريات المدنية والإصلاحات القضائية.
ولم تشهد أمريكا مثيلاً لهذه العنصرية التي بلغت حدتها في أحداث عام 1965م وبداية التسعينيات من القرن الماضي في ولاية لوس أنجلوس، وقد أوضحت الحقيقة أن الولايات المتحدة أخفقت بشكل يائس في تحقيق حتى القليل من المساواة العرقية على الرغم من مرور عقود من صراعات الحريات المدنية والإصلاحات القضائية.
في الثامن والعشرين من أبريل/ نيسان عام 1992م شهدت ولاية لوس أنجلوس الأمريكية عدة اضطرابات عرقية، واستمرت أعمال العنف لعدة أيام أسفرت عن مصرع العشرات وإصابة المئات بجروح رافقتها أعمال سلب ونهب وحرائق أشعل فتيلها تبرئة أربعة من الشرطة البيض تم تصويرهم وهم ينهالون ضرباً على سائق سيارة من أصل أفريقي، وكل هذه الأحداث ماهي إلا علامة على اليأس الذي تشعر به أقلية عرقية ناضلت منذ وقت طويل لتحصل على مساواة حقيقية مع الغالبية.
وتأتي انتفاضة الشارع اليوم ضمن سلسلة من المشاهد المأساوية التي رافقت أوضاع الأمريكيين من أصول أفريقية الحياتية وعبرت في مجملها عن الحرمان وسياسات القمع التي تتبعها الأجهزة الأمنية.
وتصاعدت حدة الاحتجاجات إثر موت جورج فلويد في أكثر من أربعين مدينة أمريكية رغم حظر التجول، ويرى ترامب أن الفوضى زاد من إضرامها الفوضويون الذين يتزعمون حركة "أنتيفا" وحركات سياسية راديكالية أخرى.
وفي بداية عام 1990 وعد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، بأن يجعل من الولايات المتحدة بلداً أكثر اعتدالاً وسخاء، غير أن زعماء الأمريكيين الأفارقة يؤكدون أن البنية الاجتماعية في البلاد تفكّكت وهناك حاجة للقيام بعمل بطولي في البيت الأبيض.
كما شعر السود بأن الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان، قد أهملهم بشكل خاص حيث اعتبر أن برامج العمل الإيجابي التي أعدت لمساعدة الأقليات بالحصول على وظائف، أصبحت تمييزاً ضد البيض.
وإضافة لذلك فالرئيس بوش يكره هذه البرامج، وقد أثار غيظ السود عندما هدد بممارسة حق النقض ضد مشروع قانون لحقوق الإنسان طرح في عام 1991م وادعى أنه سيقر حصص الأقليات.
وخاض الرئيس بوش الانتخابات الرئاسية في عام 1988م في حملة كانت تعتبر مسببة للخلاف والشقاق من الناحية العرقية، ولكن السياسة التي انتهجها بوش تركزت وإلى حد كبير على السياسة الخارجية، فتركيزه على حل المشاكل العالمية تركه عرضة لاتهامات مفادها أنه أهمل الأمراض الاجتماعية الأميركية التي تنتظر لحظة الانفجار.
ومع وضوح الحقيقة تبدو الصورة أكثر جلاء لدى الرئيس السابق باراك أوباما حيال الأزمة الصحية التي كشفت عن انعدام المساواة، ويعاني منها الأمريكيون السود، والعبء التاريخي الذي تتحمله تلك المجتمعات العرقية في هذا البلد، معبراً عن استيائه من قتل أحمد أربيري، وهذا الشاب البالغ من العمر 25 عاماً قتل في 23 شباط رمياً بالرصاص بينما كان يمارس رياضة الجري في حي سكني في مدينة برونسويك بجورجيا، إحدى الولايات الجنوبية.
وأوباما يخصص أكبر قدر ممكن من وقته ليقوم بحملة مكثفة من أجل جو بايدن، المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بعدما عبر عن دعمه له رسمياً، في الوقت الذي امتطى بايدن هذه الأزمة العاصفة بالبلاد، ساعياً إلى السير بركابها مستغلاً إياها انتخابياً.
إلا أن ترامب أظهر للأمريكيين أن انتخاب بايدن بدلاً منه يعني الفوضى للولايات الأمريكية، وفي استطلاع أجرته "الواشنطن بوست" و"إيه بي سي" أفاد تقدم بايدن على ترامب بعشر نقاط مئوية 54% مقابل 44% لترامب.
إن ترامب يعتبر الأمريكيين السود هم المسؤولون عن غالبية عمليات القتل الخاصة بالبيض، وربط في بعض خطاباته الأمريكيين من أصل أفريقي والأمريكيين من أصل إسباني بجرائم عنيفة.
وخلال فترة رئاسته اعتُبِرت تعليقاته التي أدلى بها بعد مسيرة اليمين في مدينة شارلوتيسفيل بولاية فيرجينيا في أغسطس/ آب عام 2017 م على أنها تعني التساوي الأخلاقي بين العنف الذي يستخدمه المتظاهرون البيض الذين يعتبرون أنفسهم متفوقين على السود فقط بسبب لون بشرتهم، والعنف الذي استخدمه أولئك الذين احتجوا ضدهم.
أمريكا في حاجة إلى أجهزة حازمة وصارمة بعيدة عن الانحياز قادرة على طحن هذه العصبيات الاجتماعية والحالات الاقتصادية الضيقة من فوق الحدود القائمة بين الدول، غير أن مثل هذه الأجهزة لن تستطيع العمل وإنهاء الصراعات العرقية في غياب التشريع السياسي والقوانين الاجتماعية المرسخة للحريات والحقوق المدنية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة