مقاهي بغداد القديمة تتمسك بالذكريات.. صوت أم كلثوم يصدح هنا
عند ركن قديم معتق من المقهى، يجلس رجل تقادمت عليه السنوات وضرب العمر معالم قوامه المتقوس، ورسم التاريخ ذكرياته عبر تجاعيد وجهه.
يحتسي "أبو سهيل" الشاي صباح كل يوم عند مقهى "حسن عجمي"، الذي يقع عند شارع الرشيد وسط العاصمة بغداد، في عادة جرى عليها منذ عقود.
يتجاذب الرجل المسن الحديث مع أفراد قلائل عند أريكة ظهرت عليها التشققات وتداخلت ألوانها أمام ذلك المقهى الذي مر على انشائه أكثر من مائة عام.
يتحدث أبوسهيل عما سماه "الزمن الجميل"، حيث حديث الأدب والفن والسياسة الذي كان يعلو فضاء ذلك المقهى.
يقول وقدح الشاي يهتز في يده: "الذكريات تنازع أنفاسها الأخيرة عند ذلك المكان الذي تهالكت جدرانه، وضربت الرطوبة والعفن جميع زواياه".
وكانت السلطات العراقية فرضت قيوداً صحية جراء تفشي جائحة كورونا، أغلقت بموجبه المقاهي والمطاعم والمراكز التجارية منذ مارس/ أذار 2020، لكنها عادت لتخفف تلك الإجراءات قبل أن تعود لتطبيقها مرة أخرى مع ظهور السلالة المتحورة قبل نحو 4 أشهر.
ومنذ شهرين رفعت خلية السلامة الوطنية في العراق القيود عن أماكن التجمعات والملتقيات مع إلزام المواطنين بارتداء الكمامات الواقية.
يؤكد محمد السامرائي، أحد رواد مقاهي شارع الرشيد، أن "أقسى ما يكون أن تفارق مكانا اعتدت زيارته كل يوم، خصوصا عندما تكون وسائل الترفيه شحيحة ونادرة في بلد مثل العراق".
ويوضح السامرائي، ذو الخمسين عاماً، أن تلك المقاهي ليست مكاناً للتسلية كما يعتقد الكثيرون، بل هي ارتباط وثيق مع الحاضر بالحضارة وأيام تستحق الذكر والتمجيد".
وتشتهر العاصمة العراقية منذ القدم بمقاهيها التراثية التي تعتبر محافل وملتقيات أدبية وفكرية لروادها، حيث يجتمع فيها مفكرون وأدباء ومثقفون لتبادل الأفكار والآراء والحكايات.
ويضم شارع الرشيد في بغداد سلسلة من المقاهي الشعبية ذات الشهرة الواسعة على مستوى العراق، تتميز بطابع خاص من البناء والتأثيث، فتعلو جدرانها صور شخصيات تاريخية وأبطال زاروا المكان فتركوا أثرا في نفوس المواطنين حتى بعد مرور سنين.
على بعد عشرات الأمتار، من "حسن عجمي"، عند شارع الرشيد، والقريب من جهة ساحة الميدان، يجذبك صوت أم كلثوم وصورها التي تطوق جدران "ملتقى الأسطورة".
وقد زارت المغنية المشهورة بغداد مرتين، الأولى عام 1932 والثانية بدعوة من القصر الملكي عام 1946، لأحياء بعض الحفلات الفنية، مما حدى بعشاقها إطلاق تسمية "الأسطورة"، على الكثير من المقاهي المنتشرة في العراق وعلى وجه الخصوص في العاصمة بغداد.
وعند عمق شارع الرشيد باتجاه منطقة باب المعظم، تجد باباً من الحديد المزخرف بالزجاج الملون، تختلط فيه روائح التاريخ مع الأراجيل ودخانها المتصاعد في فناء مقهى "أم كلثوم"، الذي تم تأسيسه عام 1971من قبل أحد محبي الفنانة الراحلة.
ويتميز المقهى بجمالية تصميمه التراثي وتحول جدرانه إلى معرض من الصورة المتزاحمة بمقاسات مختلفة تؤرشف تاريخ العراق، حيث الملوك والرؤساء والزعامات السياسية والأدبية التي تركت آثارها في ذاكرة البلاد.
وليس ببعيد عنه، تفوح رائحة الشعر والأحداث والزمان عند مقهى "الزهاوي"، الذي عرف بهذا الاسم نسبة إلى الشاعر العراقي الكبير جميل صدقي الزهاوي.
ويعود إنشاء المقهى الذي يقع بين ساحة الميدان وجامع الحيدر خانة، عند شارع الرشيد إلى عام 1917، ومن رواد المقهى المشهورين آنذاك، مطرب العراق الأول محمد القبانجي ويوسف عمر، وكثير من المثقفين والشعراء والمغنين والصحافيين الذين تملأ صورهم جدران المقهى.
وعند أقصى المتنبي الذي يتفرع من شارع الرشيد، وعلى بضعة أمتار من نهر دجلة، يقع مقهى "الشاهبندر"، الذي يعود إنشاؤه إلى العقد الثاني من القرن الماضي. يقول صاحبه محمد الخشالي إن ذلك المكان أنشئ على يد محمد سعيد الشاهبندر".
وشكلت الأحداث السياسية والاجتماعية في مطلع القرن الماضي، حضوراً مميزا وهاماً لتلك المقاهي، حتى أن بعضها كان مقارا لتجمعات حزبية ومطابخ سرية لانطلاق الكثير من التظاهرات الجماهيرية الكبيرة.
يقول الكاتب والصحافي والرائد كمال لطيف سالم إن "مقاهي بغداد كانت تعد منتديات ثقافية رائعة جداً ومن أبرزها مقهى البرلمان، والزهاوي، وحسن عجمي، والشاهبندر، وعدد من المقاهي الأخرى التي يرتادها الشعراء الكبار مثل حسين مردان ومعروف الرصافي وبدر شاكر السياب وغيرهم".
ويشير إلى أنه "لأمر مؤسف ومحزن أن معالم بغداد الجميلة القديمة بقيت مجرد صور، أما الآن فإن الكثير من المقاهي الثقافية والأدبية في بغداد قد اندثرت، والتي لم تندثر هجرها روادها مثل مقهى حسن عجمي وكذلك مقهى الزهاوي، بينما الجيل الجديد لا يميل إلى الثقافة والمقاهي".