هل تأخرت الدبلوماسية الأمريكية بتسجيل حضورها المباشر في منطقة الشرق الأوسط منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض؟
أم أن جولة وزير الخارجية الأمريكية بلينكن أملتها ظروف استثنائية؟ هل تندرج الحركة المكوكية التي قام بلينكن في المنطقة تحت يافطة: واشنطن حاضرة حين ترغب؟ أم أن القلق من تجاوز الأحداث المتسارعة فيها حدود السيطرة شكّل محرضاً أساسياً لتفعيل دورها ووضع بصمتها عبر مروحة التنقلات بين عدد من عواصمها؟ هل اغتنمت فرصةَ تفجر الصراع المسلح لتطلّ بدبلوماسيتها وتقوم بتوزيع الأدوار على اللاعبين المعنيين من باب رفع العتب؟
لا تستطيع القوة الأكبر في العالم أن تدير ظهرها لأي بقعة ساخنة على وجه المعمورة إذا كانت ساعيةً إلى تثبيت حضورها ودورها وتأثيرها، ومصممةً على صيانة مصالحها ومراعاة مصالح شركائها وحلفائها الإقليميين؛ فكيف الحال حين تكون هذه البقعة هي منطقة الشرق التي ظلت على مدار قرن من الزمن محور استقطابات وصراعات دولية لأسباب لا تخفى على أحد؛ بدءاً بثرواتها الباطنية ومواردها متعددة الصنوف مروراً بموقعها الجغرافي وصولاً إلى قضاياها ذات الطابع المصيري وتحديداً قضية فلسطين بأبعادها الإنسانية والسياسية والحقوقية حاضراً ومستقبلاً، وترابطها العضوي مع كل تفاصيل المشهد المضطرب فيها.
موجة القتال بين "حماس" وإسرائيل تفجرت في ظل بيئة عربية وإقليمية ودولية مغايرة إلى حد كبير لما كانت عليه الظروف ذاتها قبلها؛ إدارةٌ أمريكية جديدة في البيت الأبيض لها مقارباتها المناقضة لسابقتها الجمهورية في عدد من الملفات والقضايا الدولية، خاصة في الشرق الأوسط، مأزقٌ حكومي وسياسي وحزبي في إسرائيل، تأجيل الانتخابات الفلسطينية وانعكاساته على مجمل المشهد الفلسطيني، مفاوضات أمريكية إيرانية في فيينا ومحاولة إحياء الاتفاق السابق بشأن البرنامج النووي بينهما أو إعادة تأهيله بديكور جديد، انفراجاتٌ ملموسة على مستوى العلاقات الثنائية بين عدد من خصوم الأمس.
كان لافتاً تأكيد وزير الخارجية الأمريكي موقف بلاده الذي طرحه ضمن معادلة دبلوماسية متقنة حين أفصح عن مقاربات إدارته بشأن القضية الفلسطينية عموماً بحديثه عن حل الدولتين في إطار "عملية سياسية حقيقية"، وعن وضع حد للتوتر وإعادة إعمار غزة بشكل خاص. توازُن الخطاب الأمريكي هذا يعكس إدراكاً لجوهر المشكلة، ويشير إلى استعداد مبدئي لدى إدارة بايدن للعمل على رسم خارطة طريق لأطراف الصراع تؤسس لتفاهمات وربما اتفاقات راسخة على قاعدة ضمان حقوق ومصالح الجميع.
ظلت المنطقة لبضعة عقود خلت أسيرةً لمعادلة "توازن الرعب"، فما إن تهدأ جبهة حتى تستعر أخرى، وما إن تنكفئ ثالثة حتى تستغل قوى ناشئة الفراغ وتتسلل إلى مواضع جديدة طالما كانت مستفيدة من هذه المعادلة، والواقع يبرهن أن هذه المعادلة لا تزال تمتلك مقومات ومبررات وجودها واستمرارها طالما لم تتبلور حلول لقضاياها المصيرية كالقضية الفلسطينية التي تعتاش كثير من الأطراف على المتاجرة بها، وتأخذ المنطقة رهينة لحسابات طرف أو جماعة على حساب استقرارها وازدهارها المنشودين.
الفرصة سانحة أمام الإدارة الأمريكية لقلب معادلة توازن الرعب المسيطرة على الشرق الأوسط حالياً، وتحويلها إلى صيغة جديدة من "توازن السلام" شرط أن تأخذ بعين الاعتبار أولوية مصالح حلفائها في المنطقة وتقديمها على ما سواها، والتنسيق معهم في الخيارات التي تتبناها لأنهم الأكثر تأثراً بمخرجات أيّ سياسات لا تتلاءم مع توجهاتهم ومصالحهم ومع متطلبات استقرار دولهم التي تتقاطع في كثير من القضايا مع الرؤى الأمريكية حول الأهداف والأولويات وحتى في أنماط التغيير المطلوبة على طريق الانتقال إلى "معادلة توازن السلام".
الأعباء ليست سهلة، والعقبات كثيرة على طريق الوصول إلى المعادلة الجديدة، لكنها ليست مستحيلة في حال تمكنت إدارة بايدن من الفرز بين شريك موثوق وآخر غير ذلك، استناداً إلى تجارب سابقة وراهنة، ومن الطبيعي أن يتم البناء في هذا السياق التحالفي على ما تم ترصيده في سجل وتاريخ علاقات الجانبين في جميع المجالات الحيوية.
الفرصة السانحة لواشنطن لا تقل حيوية عن فرصة دول المنطقة، فمن شأن نجاح دبلوماسيتها في الشرق الأوسط وفي هذا المضمار تحديداً، تكريس دورها وتعزيزه على الصعيد الدولي أيضاً.
تحقيق "معادلة توازن السلام" تستلزم خطوات وإجراءات أمريكية عملية وفعلية واستراتيجية المنحى، منها تعزيز دور الحلفاء في المنطقة واحترام مصالحهم، والاعتراف بأدوارهم ودعمهم في إنتاج سلام دائم وشامل للقضية الفلسطينية، والتصدي لظاهرة التطرف أيّاً كان مصدره أو شكله، وغير ذلك من توجهات وسياسات ستعطي مفعولاً معاكساً لا يُستبعد خلاله تفجر الصراعات في أكثر من مكان، وتضرر مصالح الجميع في المنطقة ومن بينها مصالح واشنطن، وبقاء الشرق الأوسط برميل بارود قابلاً للانفجار في أي لحظة.
غزة وأحداثها وما رسمته من آفاق، ودور الحرب في تحريك الدبلوماسية الدولية والعربية، والبحث عن أدوار أو عن مسالك دبلوماسية وسياسية تتجاوز حدود وقف القتال إلى مسارات أوسع، كلها يمكن أن تؤسس منطلقات عملية تفاوضية تثمر سلاماً لا هدنة مؤقتة أو طويلة الأمد، فالهدنة يمكن خرقها من أي طرف بذرائع لا حصر لها سواء كانت دائمة أو مؤقتة، والهدنة تتحول أحياناً إلى فرصة بيد أعدائها كما بيد المتربصين لتفجير الصراع بين الحين والآخر. السلام الدائم والراسخ وحده الكفيل بتحقيق الاستقرار والازدهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة