معركة “البريكسيت” البريطانية ما زالت في بداياتها
هنا يبدو وكأن معركة البريكسيت في الداخل البريطاني ما زالت في بداياتها.
انطوت سنة 2016 على أزمة كبرى صنعها البريطانيون بأبديهم، واختاورا الخضوع لمفاعيلها بإرادتهم الحرة. فقد قررت غالبية شعبوية الخروج من إطار الاتحاد الأوروبي، بحسب النتائج التي أفضى إليها الاستفتاء على البريكسيت. ومنذ ذلك الوقت، أي منذ منتصف العام 2016 تحاول حكومة تيريزا ماي لملمة ما يمكن لملمته من تبعات هذا الخيار. فهي أخّرت قدر ما تستطيع الدخول في مفاوضات ملزمة مع الأوروبيين لتصفية التشاركات السياسية والقانونية والاقتصادية. وواجهت في الداخل ضغوطا لإعادة النظر في البريكست من ناحية، وضغوط أخرى لتسريع الخروج من ناحية أخرى. فأحالت الأمرة على مجلس اللوردات مرة، وعلى المحكة العليا مرة ثانية.
لكن تيريزا ماي تعرف إن معركتها الحقيقية لن تكون في مجلس اللوردات ولا مع المحكمة العليا، على أهمية هاتين المؤسستين وغيرهما في المنظومة السياسية البريطانية. فالمعركة الأساسية هي معركة الرأي العام الذي اتخذ بنفسه قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولهذا خاطبته بوضوح في رسالتها بعيد الميلاد، عندما تحدثت عن إن بلادها ينبغي أن تكون “جريئة” وهي تبحث لنفسها عن مكان في العالم بعد الخروج من الأسرة الأوروبية. وهي تعرف كما ذكرت إن على بلادها أن تكون موحدة وهي تمضي قدما نحو المستقبل، وهي الوحدة التي هزها بعنف استفتاء البريكسيت.
في معركة الرأي العام التي على تيريزا ماي وحكومتها وحزبها خوضها، على الأقل لأن الخصوم في حزب العمال سوف يخوضونها، بدأت “فواتير” الطلاق الصعب بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي تطل برأسها في دوائر اتخاذ القرار في لندن بشأن الاجراءات التطبيقية لسياسة “البريكسيت”. وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة أمام حكومة تيريزا ماي، التي تجد نفسها في مواجهة آثار سلبية ضخمة، بدأت ملامحها تظهر في قطاع واحد، هو مثال للقطاعات الأخرى، بحسب تصريحات محذرة أطلقها رئيس رابطة صناعة السيارات الألمانية.
ففي أكتوبر الماضي، حذر ماتياس فيسمان من أن خروج المملكة المتحدة من السوق الأوروبي يمكن أن يجبر العديد من الشركات على نقل أعمالها إلى أماكن أخرى. هذه التعليقات كانت أول ناقوس للخطر الكامن، تقرعه شخصية بارزة في صناعة السيارات الألمانية، خلال النقاش العلني حول عواقب التغيير في الترتيبات التجارية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وذلك سوف يستتبع بالتأكيد، انخفاضات دراماتيكية تهدد صناعة السيارات في المملكة المتحدة، بحسب تأكيد فيسمان.
يوم الجمعة الماضي أعاد ماتياس فيسمان، التحذير من هذا الخطر في مقال كتبه في صحيفة “تسايتونج زود دويتشه” الألمانية، أبرز فيه ما أسماه تبعات عميقة ستصيب صناعة السيارات في البلدين. وخلص من ذلك إلى أن على الطرفين، أي بريطانيا والاتحاد الأوروبي، أن يضعا نصب أعينهما مهمة الحفاظ على وجود بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة خلال مفاوضات البريكسيت القادمة.
وبحسب الاحصاءات الصناعية فإن إنتاج السيارات البريطانية قد ازدهر على مدى السنوات الخمس الماضية، وتزايد بمقدار الربع إلى 1.6 مليون سيارة في عام 2015، بالمقارنة مع العلامات التجارية الألمانية وهو ما يمثل 11 في المائة من هذا الرقم. وتضيف الاحصاءات إنه يتم شراء نحو 57 في المائة من السيارات المصنوعة في بريطانيا من قبل المشترين في بقية دول الاتحاد الأوروبي. يليها سوق الولايات المتحدة (12 في المائة)، ومن ثم الصين (7 في المائة).
ويورد المسؤول الصناعي الألماني هذه الأرقام، لكي يلوح أمام أعين رئيسة الحكومة البريطانية بالخطر الكامن على الصناعة في بلادها. وبالتالي فإن أي تفكير بإجراء طلاق كلي أو شامل قد تسعى إليه لندن، ستكون آثاره كبيرة على الطرفين، ما يعني بحسب فيسمان إن على الاتحاد الأوروبي، أن يقدم ضمانات وربما إغراءات للبريطانيين لكي لا يديروا ظهورهم كلية للأوروبيين.
وفي هذا الاطار يقترح فيسمان، أن يكون الهدف من المحادثات القادمة، هو ابقاء بريطانيا في السوق الداخلية الأوروبية، وفي الاتحاد الجمركي، وقبول الحريات الأساسية، وتقديم مساهمة مالية لميزانية الاتحاد الأوروبي، في مقابل الوصول دون عائق إلى الأسواق الداخلية لأعضاء الاتحاد الأوروبي. ولا شك إن هذه المسألة تشكل حساسية كبيرة لصناعة السيارات في بريطانيا التي يبلغ حجمها السنوي 70 مليون جنيه استرليني، وقد كانت الموضوع الوحيد على جدول أعمال مؤتمر الصناعيين الأوروبيين والبريطانيين في وقت سابق من شهر ديسمبر، وكان خلاله الوزير البريطاني المفوض شؤون البريكسيت دايفيد ديفيز يضغط من أجل الحصول على إعفاءات جمركية من أسواق الاتحاد الأوروبي. علما إن تلك التعريفات قد تصل في حال عدم حصول اتفاق بين الطرفين إلى 10 في المائة، ما يشكل ضربة كبرى لصناعة السيارات البريطانية.
وإذا كان المؤيدون للبريكسيت لا يعتدون كثيرا بهذه الأرقام، فإن الأرقام التي يقدمونها تبدو وكأنها أمنيات أكثر منها وقائع. فهم ما زالوا يتحدثون عن توفيرات ناتجة عن وقف المساهمة في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وعن الحصانة التي تتوفر للاقتصاد في بلادهم بمجرد النأي عن اعتلالات الاقتصادات الأخرى، وعن الأسواق العالمية التي تبدوة متعطشة لإنتاج مصانعهم.
هنا يبدو وكأن معركة البريكسيت في الداخل البريطاني ما زالت في بداياتها، ما يعني إن السنة الجديدة 2017 ستكون سنة صعبة أمام حكومة تيريزا ماي، ستخوض خلالها معارك على جبهات عدة، أولها مع الشركاء الأوروبيين السابقين، وثانيها مع الخصوم السياسيين والحزبيين داخل بريطانيا، وثالثها مع الأنصار المفترضين داخل حزبها.. وتلك هي أصعب معاركها على الإطلاق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة