حيثما نظرتَ ستجد أن الدول المتقدمة قائمة على الفكر الخلاق لكنك لن تجد فكراً منغلقاً يدّعي التحرر زوراً
تدور بي عصا الترحال بين مدن كثيرة في الولايات المتحدة، بها تجد كل شيء تقريباً، كل حديث ومتقدّم وكل مجنون وغير مألوف، بها الغنى الفاحش وبين أزقتها الفقر المدقع، لن تفتقد بها شيئاً، وكأن الدنيا تم اختصارها فيها، شيء واحد لن تجده: العُمق التاريخي والإرث الحضاري العتيق.
فعندما أتى البيض لهذه القارة أتوا ببنادقهم، وقضوا سنين طوال في إبادة السكان الأصليين البسطاء واحتلال أراضيهم قبل أن تنشب المعارك في ما بينهم بعد أن شب الجيل التالي من المهاجرين عن الطوق ورفضوا سيطرة البريطانيين عليهم.
وحاربوهم حتى استقلوا عنهم عام 1776 ثم دارت رحى الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال عام 1861، والتي استمرت لأربع سنوات قبل أن ينتصر الشمال بقيادة إبراهام لنكولن، ويتم توحيد الولايات وتُلغى العبودية.
لم يجعلهم افتقاد المباني التاريخية والآثار القديمة وسابق التمدن أن يبدأوا بحفلات اللطم والبكاء على اللبن المراق، ولم يجعلهم عدم وجود حضارات قديمة لديهم أن «يُصدّعوا خلق الله» بأننا أبناء أولئك العظماء ككثير ممن نرى حولنا، والذين كانوا أسوأ خَلَف لأفضل سَلَف ممن يصدق فيهم قول زايد الخير، طيّب الله ثراه:
مترى الردي لو هَب وأسنَدْ ما سَرّْ حتى لو توصّيه
فعندما أتوا من أوروبا لم يحملوا تلك المباني، فهي لأشخاص قد فَنَوا. وَحْدهم فقط الجديرون بالافتخار بها، لأنها صنيعهم وليس فاشلاً أتى بعد آلاف السنين أقصى إنجازاته نفث دخان الشيشة، وهو يفتخر بمجد غيره، لم يأتوا بالآثار، ولكن أتوا بالقيم، التي استقوها من حضارة الأندلس تحديداً، والتي سقطت قبيل اكتشاف كرستوفر كولومبوس للقارة الأميركية، هم لم يحملوا مباني ولكن حملوا فكراً متحرراً.
ولم ينقلوا معهم أضرحة وقبوراً بائدة ولكن نقلوا علماً وقيم تفوق، أقول: قيم تفوق لا قيم حضارة، لأنهم أعملوا القتل في أهالي البلاد وليس ذلك من الحضارة في شيء، وبقيت أمورهم سنين طوال مرّ بها تفوّقهم بمراحل عدة من الاستقلال، وإعلان الدستور.
وإلغاء الرق وتوحيد الولايات المتناثرة، ثم إلغاء التفرقة العنصرية وكل أشكال التمييز بناء على عرق أو مذهب، لتشتد بعدها أعمدة الحضارة، التي لا يبدو أنها ستخبو رغم تنجيم الكثير من الكُتّاب لدينا، منذ أكثر من ثلاثين عاماً بأنّ أميركا ستنهار!
لا أقول إنها خالدة ولا أقول إنها المثال الأفضل لنتشبه به، لكنها ما دامت تأخذ بالمبادئ والقيم نفسها، التي تألقت بها فلا يُعقَل أن تتغيّر الأمور لمجرد أماني البعض وأدبياتهم البعيدة عن الواقع، وما دامت متفوقة فلا غضاضة من اقتفاء ما كان سبباً لتفوقها، فهي ما زالت القوة المهيمنة على العالم، وصاحبة أكبر اقتصاد عالمي بناتج محلي يبلغ 18.5 تريليون دولار، وصاحبة أكبر براءات اختراع عالمياً.
وتمثل جامعاتها أكبر نسبة من أفضل 500 جامعة عالمية، وشركاتها تكاد تحتكر قائمة Forbes500 لأقوى الشركات العالمية، ما زلت أذكر وصفاً أطلقه أحد المحاضرين على سبب تفوّق الأميركان، وذلك بأنهم Can-Doers فهم لا يعرفون غير الممكن، بل دوماً يؤمنون بأنهم قادرون على إنجاز ما يريدون!
جميل أن يفتخر الإنسان بتاريخ بلاده وبإرثها الحضاري، لكنه إن لم يكن وقوداً للكفاح والمنافسة ورمي قفاز التحدي للنخبة، وإلا لا فائدة فيه سوى مدخوله من زيارات السيّاح «و كفى الله المؤمنين القتال»، وكم يستفزني ذاك الذي لا يفتأ يُذَكّر الجميع بأننا كنا وبأننا كنّا، إذ لا معنى لأنْ تفتخر بما لم تبن، ولا فائدة لبلادك إن كان كل ما يمكن أن تتشدّق به هو تعب وجهد ونضال أناس عظماء ماتوا منذ آلاف السنين، بينما يتكاسل هذا المتفاخر حتى عن الحضور للدوام في موعده!
حيثما نظرتَ ستجد أن الدول المتقدمة قائمة على الفكر الخلاق لكنك لن تجد فكراً منغلقاً يدّعي التحرر زوراً، وستجد فيها تقبلاً أو على الأقل احتراماً للرأي الآخر، وليس تقبلاً لمن يوافقه فقط، وإن خالفه فهو رجعي عبثي، وستجد فيها قفزاً للأمام واستباقاً في البحوث والعلوم واقتناص كل موهوب لإبقاء تلك الميزة التنافسية حية.
ولن تجد فيها عاهات تُنَبِّش في التاريخ البائد لتحيي صراعات طائفية ومذهبية لا تزيد الأوطان إلا انقساماً وتفككاً في زمن نحتاج فيه لرأب أي شُبهة صَدْع في النسيج المجتمعي لِعِظَم الأخطار المحيطة بنا، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا سبباً لنهضة لا عَوناً للحفاظ على المكتسبات، فكل من يملك فكراً انتقائياً إقصائياً لا يحمل حقيقة إلا مِعوَل خراب!
إن أوطاننا تحتاج الكثير منا واجباً لا منة وتكرّماً، وتنتظر منا العمل الكبير لتقريب المسافة مع دول النخبة، و إن كنا فعلاً «عيال زايد»، فزايد، طيّب الله ثراه، قال: «يا عيالي، رَد الجميل مب لي أنا، ردّ الجميل لوطنكم، لأرضكم اللي ربّتكم وربيتوا عليها»، نحن لسنا أقل من مغامري أوروبا، الذين شادوا هذه الحضارة من نيويورك إلى لوس أنجليس، فزايد أقام حضارة على صحارى جرداء لا ينبت على رمضائها سوى الخوف ولا يتجول بين كُثبانها سوى اليأس.
لكنه كان رجلاً يحمل حُلُماً عظيماً، لم يؤمن بمستحيل ولم يستمع لمثبّط، فإنْ كنا فعلاً أبناءه فلنقتفي أثَرَه فِكراً وسلوكاً وخُلُقاً، زايد كان جامعاً لا مُفرِّقاً، وباذر خير لا ناشر شر، ورسول محبة وتسامح لا صاحب أجندة فئوية ضيّقة، وهازم مستحيل لا منكسراً لمصاعب، وباني نهضة لا مفتخراً بنهضة قديمة بناها غيره.
ولو حاكى كل منا زايد وأخذ بعضاً مما كان لديه، رحمه الله، فإنّي على أتم الثقة بأن بلادنا ستتجاوز تقدمها وتميزها الحالي لمراحل متقدمة للغاية، فهل يبني «كل» واحد منا لبنة في مستقبل هذا الوطن أم نكتفي بالافتخار بما بناه أسلافنا كبقية ثرثاري العرب؟
* نقلا عن البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة