«الحشد الدقيق».. استراتيجية جديدة للحروب فرضها التقدم التكنولوجي
من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، تسمح تطورات الذكاء الاصطناعي، والجيل الجديد من التقنيات الحديثة، في إعادة مفهوم الحشد في ساحة المعركة.
وعلى مدار آلاف السنين، اعتبر القادة العسكريون أن امتلاك قوات أكبر عددياً ومعدات أكثر من الخصم، هو أمر بالغ الأهمية لتحقيق النصر في المعركة، لكن العقود الخمسة الماضية، شهدت تحولاً في طبيعة الحشد، باتجاه الأهمية النوعية للكيف لا الكم، وذلك وفقا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
وهذا الاتجاه تسارع مع نهاية الحرب الباردة، حيث اكتشفت الجيوش، وخصوصا الجيش الأمريكي، أن الأسلحة المتقدمة باهظة الثمن تمتلك كفاءة وفاعلية أكبر، إذ بإمكانها ضرب الأهداف بدقة في جميع أنحاء العالم لذا اختار القادة تقليص حجم قواتهم والتركيز بدلاً من ذلك على صقل مزاياهم التكنولوجية.
وتُظهِر حروب اليوم والاستثمارات الدؤوبة التي قامت بها الولايات المتحدة والصين عودة مفهوم الحشد، لكن ليس على حساب الكيف والدقة، فالواقع أن عصر الحرب الحالي يمكن تسميته عصر "الحشد الدقيق"، حيث تجد الجيوش أن بإمكان الجهات الفاعلة حشد أنظمة وصواريخ غير مأهولة والحصول على أقمار صناعية غير مكلفة وتكنولوجيا متطورة متاحة تجاريًا لإجراء المراقبة بسهولة أكبر وتنظيم هجمات دقيقة ومدمرة.
وفي عصر "الحشد الدقيق"، سيتم تعريف الحرب إلى حد كبير من خلال نشر أعداد هائلة من الأنظمة غير المأهولة، سواء كانت مستقلة تمامًا وتعمل بالذكاء الاصطناعي أو يتم التحكم فيها عن بعد، من الفضاء الخارجي أو تحت سطح البحر.
ورغم أن الجيش الأمريكي في وضع يسمح له بالقيادة والتكيف مع هذه التغييرات في طبيعة الحرب، إلا أنه يتعين عليه أن يكون مستعدًا لتبني الابتكارات بسرعة وعلى نطاق واسع، حيث تنبئ الاختراقات الرائدة الواضحة في صراعات اليوم بكيفية شن الحروب في السنوات والعقود القادمة.
السعي إلى الدقة
ولطالما اعتقدت الدول أن تحقيق النجاح في ساحة المعركة يتطلب امتلاك المزيد من القوات والمعدات والمؤن مقارنة بخصومها، لكن في أواخر الستينيات تغيرت هذه النظرية وبدأ الجيش الأمريكي يرى أن الدقة أهم من الكم وسعى إلى تحديد الأهداف وتعقبها وضربها بدقة متزايدة، ما أدى إلى تقليل عدد المنصات والأسلحة اللازمة للعمليات العسكرية.
وفي سبعينيات القرن العشرين، واجهت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون قوات سوفياتية متفوقة عدديًا ولم يتمكنوا من مجاراة السوفيات، وخشي كبار المحللين العسكريين الأمريكيين من أن تفوز موسكو بحرب في أوروبا بسبب الحشد الكمي.
ولمعالجة هذه المخاوف، قدمت الولايات المتحدة برنامجًا يسمى Assault Breaker لدمج التقنيات الناشئة آنذاك في التخطيط العسكري، بقصد استخدام الصواريخ والقنابل الدقيقة لتدمير القوات السوفياتية التي لو حققت اختراقًا أوليًا في هجوم على أوروبا الوسطى، فلن تتمكن من إحداث ثقوب عميقة في الخطوط الغربية.
وباستخدام أجهزة الاستشعار، والأشكال المبكرة من أنظمة التوجيه، والأسلحة بعيدة المدى، بنت الولايات المتحدة قدرة على تدمير الموجات الثانية والثالثة واللاحقة للقوات السوفياتية في أوروبا.
ورغم أن الحرب الباردة لم تتحول أبدا إلى حرب ساخنة في أوروبا، إلا أن قدرات الضربات الدقيقة ظهرت لأول مرة في حرب الخليج عام 1991 حين تابع الناس حول العالم لقطات لقنابل موجهة بالليزر، وهي تصطدم بالدبابات العراقية.
وكان تراجع المنافسة بين القوى العظمى مع تركيز العالم على الصراعات الأصغر حجماً سبباً في زيادة أهمية الدقة، حيث جرت أغلب العمليات العسكرية بين قوات أصغر حجماً في مناطق مأهولة بالسكان مثل أفغانستان وكوسوفو.
وحافظت الولايات المتحدة على تفوقها في الضربات الدقيقة، وفي وقت واجه فيه البنتاغون تكاليف باهظة للمعدات والأسلحة، اختارت واشنطن تقليص حجم جيشها والاعتماد على الدقة.
ثنائية كاذبة
ولم تعد الولايات المتحدة تتمتع الآن بالريادة في الضربات الدقيقة فقد أصبحت التكنولوجيا التي تقوم عليها هذه القدرات أرخص بمرور الوقت ومتاحة للعديد من البلدان والجماعات المسلحة ومع انتشار المعرفة والتكنولوجيا والأسلحة، تتغير الحرب، وأدى التقدم في التصنيع والبرمجيات إلى خفض أسعار المعدات الرئيسية.
فالطائرات التجارية الرخيصة المجهزة بالأسلحة، والقادرة على ضرب أهداف بعيدة محددة أو إجراء عمليات مراقبة، باتت منتشرة على نطاق واسع.
وبدأت الجيوش تدرك أنها ليست مضطرة للاختيار بين الدقة والحشد، بل يمكنها الجمع بينهما خاصة، وأن أسلحة مثل الطائرات التجارية الرخيصة المجهزة بالأسلحة لا تعد خسارة أي منها أمرا مهما مقارنة بالأسلحة الأكثر تقدما مثل المقاتلات إف 35.
وحولت التقنيات الجديدة حرب أوكرانيا إلى "مختبر معركة"، مع استخدام الجانبين أسرابا من المسيرات الرخيصة في اختلاف عما كان يحدث في بداية القرن الـ 21 من حيث اتساع نطاق استخدام هذه التكنولوجيا.
ويحدث هذا التحول في طبيعة الحرب بسبب المزايا المحتملة للتكنولوجيا الجديدة، حيث أصبح بإمكان كل الجهات الفاعلة من الدول الصغيرة إلى الجهات غير الحكومية توليد قوة ضاربة هائلة من خلال نشر أنظمة أرخص على نطاق واسع.
وبات الدفاع ضد الهجمات بالمسيرات أكثر تكلفة من الهجوم نفسه ففي أبريل/نيسان الماضي، أطلقت إيران أكثر من 300 صاروخ ومسيرة على إسرائيل التي صدتها جميعا تقريبا بفضل الدعم الأمريكي، ولكن بأي ثمن؟، إذ أشارت تقارير إلى أن تكلفة الهجوم بلغت نحو 80 مليون دولار، فيما تكلفة الدفاع بلغت مليار دولار.
الاهتمام بالتكنولوجيا
وغالباً ما يُتهم البنتاغون بالبطء في الابتكار وهو ما أقرته نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس، ومع ذلك، تُظهِر العديد من المبادرات والبرامج الأخيرة اهتمام وزارة الدفاع المتزايد بـ "الحشد الدقيق" وتبني التقنيات المتطورة.
وتسعى القوات الجوية إلى الحصول على مسيرات مقاتلة منخفضة التكلفة إلى جانب مقاتلات إف-35، كما تخطط لتصنيع مسيرات أقل تكلفة ونشر الآلاف منها، كما تعمل القوات الجوية مع القطاع الخاص لإنتاج صواريخ كروز بتكلفة 150 ألف دولار لكل منها، وبدأت البحرية في توظيف متخصصين في الحرب الآلية، وأنشأت سربًا جديدًا يركز على السفن غير المأهولة التي جربت أعدادًا كبيرة منها بالشرق الأوسط.
ويقوم الجيش الأمريكي بإجراء تعديلات تنظيمية لمساعدة القوات المسلحة على التكيف مع التقنيات الجديدة وتبنيها، وتحسين تنظيم القوات وتدريبها وتجهيزها ونشرها.
ضباب المستقبل
والواقع أن المسيرات المنتشرة بأعداد كبيرة في أوكرانيا، يعطي مجرد لمحة عن شكل حروب المستقبل.
ويتعين على الجيوش أن تتوصل إلى سبل هزيمة استراتيجية "الحشد الدقيق"، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من التغيير.
وخلصت مجلة "فورين أفيرز"، إلى أنه يتعين على الجيش الأمريكي أن يتقدم بسرعة أكبر إذا كانت الولايات المتحدة تريد الحفاظ على قيادتها العالمية.