في الحقيقة لا أحد من العرب يريد الإضرار بالدولة الإيرانية ولا بالشعب الإيراني، كل ما يريده العرب منع الضرر الإيراني.
نذر المواجهة التي تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران قد لا تعبر عن حقيقة، وقد ينطبق عليها المثل العربي، أسمع جعجعة ولا أرى طحنا، وقد يتوقف الأمر عند مرحلة الابتزاز من جانب، والتنازل من الجانب الآخر.
وإذا نظرنا إلى العقل السياسي للجانبين الإيراني والأمريكي؛ نجد أن هناك تشابها كبيرا خصوصا في حالة الرئيس ترامب، بصورة تجعل من الرئيس الأمريكي أقرب القادة الغربيين إلى فهم العقل السياسي الحاكم في إيران، والأقدر على التعامل معه؛ لأن ترامب ذاته تاجر من قيادات البازار الأمريكي الذي يصل للبيت الأبيض لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، فإذا كان يحلو للباحثين الذين يتعاملون مع إيران أن يصفوا نظام الحكم فيها بعقلية البازار، أي التجار التقليديين الذين يعرفون كيف يستحوذون على الزبون ويبيعونه ما يريدون بالسعر الذي يريدون؛ فإن الرئيس ترامب هو من هذه الفئة أيضا.
العرب يريدون إيران دولة طبيعية، مثل باقي دول العالم، وليست دولة ولاية الفقيه، وتصدير الثورة، ومن يخلص العرب من شرور دولة ولاية الفقيه وتصدير الثروة من المؤكد سوف يدعمونه.
منذ بداية الحوار المكثف بين الدول الست وإيران حول الملف النووي في عام 2009 حتى اليوم، تتبع إيران استراتيجيتين في التعامل مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هما:
أولا: استراتيجية البازار التي تقوم على التفاوض الطويل والممل، الذي يدفع الطرف الآخر للتسليم بالسعر الذي يريده البائع، وهذا هو الجوهر العميق للشخصية الإيرانية، التي يسكنها تاجر البازار الذي يعرف ماذا يريد، ويبدأ من النقطة التي تقود المشتري للشعور بالنصر، أنه قد حصل على السلعة بسعر بخس، وفي الحقيقة هو السعر ذاته الذي حدده تاجر البازار في عقله، وبدأ من سعر أعلى حتى يصل إليه، لذلك تنطلق السياسة الخارجية الإيرانية من أسقف عالية جدا عند بدء التفاوض، ثم تتراجع بمنهج محسوب بدقة حتى تصل إلى الهدف الذي حددته منذ البداية، ولكنها تشعر الطرف الآخر بالنصر، وتعطي انطباعا زائفا بالتنازل والتراجع، وهذا هو سر تمسك قادة الاتحاد الأوروبي بالاتفاقيات الموقعة مع إيران؛ لأنها بالنسبة لهم كانت نصرا مؤزرا في حينها؛ فقد نجح تاجر البازار الإيراني في بيعهم حالة النصر الوهمية.
ثانيا: استراتيجية حافة الهاوية، وتقوم على صنع موقف بطولي ضخم مستعد لأقصى درجات المواجهة من أجل مبادئه، ومصالحه السياسية العليا، وأنه لا يخاف العواقب، أيا كانت صورتها. وهذه الاستراتيجية تخدم الأغراض الأيديولوجية للنظام، الذي يقدم نفسه على أنه هو الأقدر على مواجهة الغرب، والوقوف أمامه بكل قوة وصلابة، وهذه الصورة الوهمية تسهم في استحمار الشعوب والجماعات والأحزاب الإسلامية المنبهرة بالنموذج الإيراني، وفي هذه الاستراتيجية يحافظ المفاوض الإيراني على سقف مرتفع جدا من المطالب، مهددا بإفشال المفاوضات، والانتقال إلى بدائل أكثر شراسة، وأشد خطورة، وذلك حتى يصل الطرف الآخر إلى حافة المواجهة، حينها تظهر استراتيجية البازار، ويتم التراجع الإيراني فجأة، ويبيع بالسعر الذي رفضه سابقا.
ضمن هاتين الاستراتيجيتين تتعامل إيران مع صانع القرار الأمريكي، وذلك من خلال خطاب سياسي يتحدى القوة الأمريكية، كما كان يصعد إلى حافة الهاوية مع الاتحاد الأوروبي في العلن، ولكنه يقبل بكل الشروط في الخفاء، وفي اللحظة المناسبة سوف يعلنها. والحقيقة أن إيران لن تواجه أمريكا والاتحاد الأوروبي، ولكنها سترضخ في النهاية بعد تحقيق أقصى ما تستطيع من المكاسب.
والفارق الكبير بين مفاوضات البرنامج النووي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبين الموقف الحالي في المواجهة مع القوة الأمريكية منفردة في عهد الرئيس ترامب، أن الرئيس ترامب يتعامل بنفس عقلية البازار الإيرانية، وبنفس استراتيجية حافة الهاوية، وقد رأينا ذلك في تعامله مع كوريا الجنوبية والصين وغيرهما، ولذلك لن تنجح الأساليب الإيرانية السابقة التي تم تطبيقها في مفاوضات البرنامج النووي؛ لأن الطرفين في الموقف الحالي يفكران ويتصرفان بالعقلية نفسها، فلن يستطيع أحدهما تحقيق أهدافه على حساب الآخر.
والمتوقع أن تخضع إيران في ملفات كثيرة، وتتراجع وتتنازل في مناطق أكثر، وستقوم القوات الأمريكية بتدريبات ومناورات روتينية حية، ولكنها ستعود دون حرب، وستكون سوريا والعراق واليمن ولبنان هي الملعب الإيراني للمواجهة، وستتخلى إيران عن عملائها وأصدقائها، أو يتخلون عنها؛ إذ إن من مصلحة روسيا وحكومة بشار إخراج إيران من سوريا بعد أن تم التخلص من الجماعات المسلحة.
وسيتم إنهاء دور حزب الله بقرار إيراني، وسينتهي كذلك وجود الحشد الشعبي، ويعود الحوثي إلى صعدة عبر بوابة الأمم المتحدة، بعبارة أكثر دقة سينتهي دور فيلق القدس، ويتم تهميش الحرس الثوري؛ لأن النظام الإيراني يعلم علم اليقين أن المواجهة مع الولايات المتحدة ستكون فيها نهاية نظام ولاية الفقيه؛ لذلك لن تتم التضحية بالجوهر من أجل العرض، ولا بالأصل من أجل الفرع، وسيدخل النظام الإيراني بيت الطاعة الأمريكي، ويعيد تطبيع علاقاته مع الغرب انتظارا لعودة الحلم الغائب.
في الحقيقة لا أحد من العرب يريد الإضرار بالدولة الإيرانية ولا بالشعب الإيراني، كل ما يريده العرب منع الضرر الإيراني عن دولهم ومجتمعاتهم، وقطع يد الشر الفارسية العنصرية الطائفية عن العبث بكل الدول العربية، تارة دينيا، وتارة سياسيا، وثالثة عسكريا، العرب يريدون إيران دولة طبيعية، مثل باقي دول العالم، وليس دولة ولاية الفقيه، وتصدير الثورة، ومن يخلص العرب من شرور دولة ولاية الفقيه وتصدير الثروة من المؤكد سوف يدعمونه.
نقلا عن "الأهرام".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة