بقار حَدّة.. سيدة الأغنية البدوية الجزائرية التي ماتت فقرا
بقار حدة أول فنانة جزائرية تنقل الفن الجزائري إلى العالمية، تُلقَّب بأسطورة الأغنية البدوية في الجزائر، لكن وفاتها كانت بطريقة مؤسفة.
بقَّار حَدَّة، أو كما تُسمَّى في الجزائر "عميدة الأغنية البدوية" صاحبة الصوت الجوهري الجبلي، من أوائل الفنانين الجزائريين الذين أخرجوا الفن الجزائري الأصيل من قوقعة المحلية إلى العالمية.
وُلدت الفنانة والمطربة الجزائرية "بقَّار حَدَّة" في شهر يناير/كانون الثاني عام 1920 في قرية "آيث بربر" أولاد بربر بمحافظة سوق أهراس "640 كم شرق الجزائر العاصمة"، وعُرِفت باسم "حدة الخنشة" بسبب التشوه الموجود على أنفها.
كانت فريدة من نوعها، بحسب كل من عرفها عن قرب، فهي من كانت تؤلف وتلحن كل أغانيها التي نقلت شهرتها إلى العالمية، كانت أيضا شاعرة وتكتب قصائد عن الحب وعن الثورة الجزائرية، وعازفة جيدة على آلة "القصبة" الجزائرية التقليدية التي تشبه آلة الناي، إضافة إلى مهارتها في الضرب على الدُف على الطريقة الشاوية الأمازيغية أو كما يسمى في الجزائر "البَندير".
وُصفت بأنها فنانة متكاملة رغم أميتها وظروف عائلتها الفقيرة والرازخة تحت نير الاستعمار الفرنسي، الذي عمل على تجويع وتشريد وقتل الأهالي في كل قرى ومدن الجزائر.
اشتهرت بقَّار حَدَّة بأداء الأغنية البدوية لمنطقة الشَّاوية الأمازيغية (شرق الجزائر)، وكانت الفنانة الوحيدة في زمانها، وأول امرأة جزائرية تغني البدوية وتتحدى كل ظروفها، مزجت في كلماتها بين اللهجة الجزائرية العامية واللهجة الشاوية الأمازيغية، بكلمات دقيقة وملتزمة.
طفولة مبتورة
عبّرت بقَّار حَدَّة عن جرح ووجع داخلي لازمها طوال حياتها في عدد من أغانيها من بينها "هزيت عيوني قابلوني جبال لمشروحا" أي "رفعت عيوني قابلوني جبال المشروحة" ، (المشروحة منطقة في محافظة سوق أهراس)، وأغنية "جبال لمشروحة القلب مليان والكبدة مجروحة"، أي "في جبال المشروحة القلب مليء".
لم تقصد "بقَّار حَدَّة" في هذه الأغاني وأخرى حياة الفقر التي عاشتها، بل عن نقطة سوداء في حياتها لازمتها طوال حياتها.
وبحكم العادات القديمة في مدينتها، أُجبرت بقَّار حَدَّة من قبل والدها على الزواج وهي في سن الـ14 من شيخ طاعن في السن، لتجد نفسها تتحمل مسؤولية بيت وزوج يكاد ينطق، زادها الفقر وتسلط الاستعمار الفرنسي، وخرجت كنساء قريتها لترعى الغنم.
الطبيعة تكتشف صوت بقَّار حَدَّة
رغم سوداوية قصتها التي خضعت لأعراف متسلطة وعادات بالية، فإن خروج بقَّار حَدَّة لرعي الغنم جعلها تمضي وقتها "بالدندنة"، وبأداء "مواويل" بدوية من الطابع الشاوي الجزائري.
اكتشفت بقَّار حَدَّة مع مرور الوقت أن لها صوتا فنيا قد يُخرجها من ظروفها القاسية وضغوط عادات مجتمعها، الذي يعتبر المرأة التي تغني عارا على أهلها ومنطقتها.
وفي إحدى لقاءاتها الصحفية النادرة، قالت: "رغم حبي لإبراهيم (زوجها الثاني) كثيرا، لكنني أحببت أن أرى كيف ستكون الجزائر، وفي كوخي الصغير غنّيت في الليل أغنيتي الأولى، التي تعود ذكراها لوقوفي أمام والدي وأصدقائه".
قصة حب عنوانها: مزمار يتغزل بصوت
بعد وفاة زوجها، تعرفت بقَّار حَدَّة على عازف آلة "القصبة" المعروف في الجزائر باسم "القصَّاب" واسمه "إبراهيم"، نشأت علاقة حب بينهما انتهت بزواج لكنه خارج عن أعراف أهلها ومنطقتها.
وبعد أن قوبلت برفض أهلها لإبراهيم ولفكرة غنائها، قررت التمرد على عائلتها والهروب مع إبراهيم في نهاية الثلاثينيات، وكانت قصة حبها سببا في كتابتها وأدائها أغنية "هزي عيونك راهم شافو فيا"، أي "ارفعي عينيك.. فهي تراني" التي كانت واحدة من أشهر أغانيها، وأعاد أداءها عدد كبير من الفنانين الجزائريين.
وفي أحد تصريحاتها الصحفية، قالت بقَّار حَدَّة عن تلك القصة: "متعة الهروب أغرتني أكثر من البقاء مع رجل لا أحبه، لم أكن ذميمة الخلق وكان صوتي أجمل من أن يُرى، زوجوني لرجل عجوز وعمري 14 سنة، وطلبوا مني أن أرضى بمصيري، لكن إبراهيم القصّاب الذي أحبني دون أن يراني أرسل رسائل حبه لي من خلال عزفه، فهمتها، مزمار يتغزّل بصوت، علا صوتي كما يعلو ريش الطاووس ليخبر بأن الألوان تتعدد لتبهج الرائي، التقيته في ليل مظلم، بعيدا عن مكان العرس الذي كنت أغني فيه، سألته: ماذا أتى بكَ هنا؟ لتكون الإجابة: ماذا أتى بكِ إلى هنا؟ من وقتها لم أسأل أي سؤال لأنه فهم إشارات أغنيتي كما فهمت إشارة مزماره.. ألا يستحق الحب أن يبدأ بإشارات كاختبار أول للحبيب؟".
بقَّار حَدَّة تفجر صوتها محليا وعالميا
بعد زواجها من إبراهيم القصاب، خرجت بقَّار حَدَّة بفنها من حفلات الأعراس المحلية إلى باب الشهرة الواسعة التي لم يكن يحلم بها أي فنان جزائري في ذلك الوقت.
سافرت مع زوجها إلى فرنسا، وهناك فُتحت لها أبواب النجاح، حيث أحيت حفلات كثيرة في عدد من المدن الفرنسية خاصة تلك التي تعرف وجود المهاجرين الجزائريين، ومن بقية سكان شمال أفريقيا، من بينها باريس، ليون، مرسيليا، ستراسبورج، وغيرها، إلا أن الحفلات لم تسجل أو تذاع.
مع نهاية الخمسينيات، وقّعت بقَّار حَدَّة أول عقد لفنان جزائري مع شركة Edition Star الفرنسية، لتسجل عددا كبيرا من الأغاني البدوية المستمدة من الطابع الشاوي الأمازيغي.
رغم شهرتها ونجاحها الذي تعدى حدود الجزائر، لكنها كانت الفنانة الجزائرية الوحيدة التي لم تسجل أغاني مع الإذاعة أو التلفزيون الجزائري بعد الاستقلال، مع أن الإذاعة الجزائرية كانت تبث بعض أغانيها، وإن بقي السبب غامضا.
ثورة الجزائر.. في القلب وعلى اللسان
اشتهرت "سيدة الأغنية البدوية والشاوية" في الجزائر بأغانيها الثورية القوية، خاصة وأنها عاشت الثورة الجزائرية بعد عودتها من فرنسا في الخمسينيات، وصدح صوتها بروائع مجّدت فيها الثورة الجزائرية ورثت روح شهدائها، من بينها "الجندي خويا"، "يا جبل بوخضرا"، "دمو سايح" (دمه ينزف) التي رثت فيها شهيد الثورة التحريرية الجزائرية عباس لغرور.
وبعد استقلال الجزائر عام 1962، انتقلت بقَّار حَدَّة بين مختلف القرى والأرياف الجزائرية لإحياء حفلات غنائية ضخمة، واشتهرت بفنانة أعراس وحفلات كبار المسؤولين في الجزائر آنذاك.
تهميش وفقر.. فموت
لا أحد يعرف كيف انقلبت حياة الفنانة بقَّار حَدَّة من أضواء الشهرة إلى ظلمات قبو عاشت فيه بقية حياتها، ولم تحظ باهتمام إعلامي وفني كما حدث مع بقية الفنانين الجزائريين بعد استقلال البلاد.
بقَّار حَدَّة التي تعدت شهرتها إلى أوروبا لم يستضفها التلفزيون الحكومي إلا مرتين فقط في أواخر السبعينيات وفي 1992، وكانت سنة 1988 التي كانت بداية الحظ السيء للفنانة، فهي السنة التي توفي فيها زوجها إبراهيم، ومعه افترقت الفرقة الموسيقية التي كان أحد أفرادها.
وجدت بقَّار حَدَّة نفسها وحيدة، وعادت إلى مدينة سوق أهراس، حيث عاشت في كوخ، ثم غادرت إلى محافظة عنابة (شرق الجزائر)، حيث قضت آخر أيامها في غرفة واحدة بإحدى العمارات، تشبه القبو.
باعت الفنانة كل أثاثها البسيط وما تملك من حلي حتى تأكل وتقاوم حياة الفقر التي فتحت عينيها عليها، ويشاء قدرها أن تغلق عينيها على حياة الفقر نفسها، وفارقت الحياة وحيدة في غرفتها الصغيرة في سبتمبر/أيلول 2000، ولم يكتشف جيرانها وفاتها إلا بعد مرور عدة أيام، وأكد عدد من جيرانها أنها توفيت بسبب المرض والجوع.
إرث فني كبير
رغم وفاتها فقرا، فإن بقَّار حَدَّة تركت إرثا فنيا لا يُقدَّر بثمن، أثْرت به المخزون الثقافي والفني الجزائري بمئات الأغاني البدوية الشاوية.
وتكريما لروحها ولإعادة الاعتبار لها بعد وفاتها، أعاد عدد من الفنانين الجزائريين أغاني بقَّار حَدَّة، من بينهم الشابة يمينة، سليمان القالمي، حورية عايشي، إسماعيل القطاري، وغيرهم.
مسرحية "حدَّة يا حدَّة".. سيدة المسرح تعيد الاعتبار لسيدة البدوي
أعادت سيدة المسرح الجزائرية الفنانة الراحلة مكيو سكينة المعروفة باسم "صونيا" الاعتبار للفنانة الراحلة بقَّار حَدَّة، من خلال مسرحية أخرجتها، وأرادت من ورائها تكريم الفنانة وإعادة الاعتبار لها.
مسرحية "حدَّة يا حدَّة" التي ألفها الكاتب جلال خشاب سلطت الضوء على نضال بقَّار حَدَّة في حياتها، وسعيها لتحقيق حلمها بأن تكون أيقونة للغناء البدوي الشاوي في الجزائر.
بدأت المسرحية من طفولة "حدة" وعشقها للغناء، ثم زواجها في سن مبكرة من شيخ طاعن في السن مكرهة، ثم لقائها بعازف الآلة التقليدية "القصبة" في إحدى حفلات الأعراس التي كانت تحييها، وهروبها معه بعد أن قررت التمرد على تقاليد ظالمة فرضتها قريتها.
ثم ينتقل سيناريو المسرحية إلى دخول الفنانة عالم النجومية والشهرة، مع أغاني تؤديها برفقة زوجها الذي كان يرافقها دائما وبيده آلة "القصبة" الشبيهة بالناي، وركزت على الجانب المضيء من حياتها، ورصيدها الفني وحبها لوطنها وللحرية.
aXA6IDE4LjIyNi45My4yMiA=
جزيرة ام اند امز