انشغال الفرد بنفسه وسعيه لتحقيق نجاحات في حياته واستمتاعه بما لديه من نِعَم ومواهب هو الدواء الناجع للحسد
يبدو لي أن هناك ظاهرة غامضة في الوسط الفني والثقافي لم تأخذ حقها حتى الآن من التحليل الفلسفي والنفسي والاجتماعي، هذه الظاهرة نجدها تتمثَّل في عدد من السلوكيات، إلا أني سأركز في هذا المقال على سلوكين أصبحا واضحين وظاهرين للعيان، وهذه الظاهرة على ما يبدو موجودة في كل مجتمع، لكنها في المجتمعات العربية تبرز أكثر.
هل المثقف العربي والخليجي عندما يكتب أو يؤلف أو يغرد، يريد بالفعل نهضة مجتمعه؟ هل هو يحمل هموم مجتمعه أصلاً؟ أم أنه مجرد باحث عن مكانة وهدف وراء ذلك؟
استوقفتني تغريدة للفنان عبدالله السدحان يقول فيها:
"كثير من التعليقات والردود تطالب بعمل يجمع الغالبية، أمنية نتمناها، المتلقي يشوفنا من خلال الشاشة يا حليلنا ويا زينا، السؤال هل تعلمون ما في الدواخل؟ الغالبية منا يملك شخصيتين شخصية لكم وشخصية أخرى لنا".
وفي الواقع لا يهمني المقصود من التغريدة ولا يهمني الوسط الفني بأكمله، لكن ما لفت انتباهي أن هذه السلوكيات والتي مصدرها بكل تأكيد "الحقد والحسد" نجدها بين مثقفي النخبة في العالم العربي، وعندما نقول إن مصدر ذلك هو "الحقد والحسد" ونكتفي بذلك؛ ففي ظني أن هذا اختزال وسطحية ولا يكفي لتفسير الظاهرة، فمن المؤكَّد أن هناك أبعادا متعددة ومعقدة تحتاج إلى تفكيك حتى يتسنَّى فهمها وتفسيرها علمياً وفلسفياً، بالإضافة إلى الاستقراء لشخصية المثقف العربي والتأثيرات الخاضع لها ثم التوصل للحلول والعلاج.
وهناك بالتأكيد فرق بين الحقد والحسد، في كتابه (رسالة في الطبيعة البشرية) يقول هيوم "الفارق الوحيد بين هذين الشعورين يكمن في أن الحسد يستثيره استمتاع حالي يعيشه شخص آخر، وهو ما يسبب التضاؤل نتيجة المقارنة لفكرتنا عن ذاتنا، في حين أن الحقد رغبة غير مستثارة لإيقاع الشر والأذى بالآخر".
والحقد في ظني لا يمكن أن يَنتُج دون خبرة سابقة تتحدَّد في موقف أو شخص معين، بينما الحسد لا يستلزم ذلك، لذا نجد أن الحسد أكثر شيوعاً بين بني البشر، وإن كان الحسد هو الدافع الوحيد لتلك السلوكيات فإن انشغال الفرد بنفسه وسعيه لتحقيق نجاحات في حياته واستمتاعه بما لديه من نِعَم ومواهب هو الدواء الناجع للحسد، يقول برتراند راسل "لن يمكنك التخلص من الحسد بالنجاح وحده لأنه سيوجَد دائماً في التاريخ أو الأساطير شخص ما أكثر منك نجاحاً، ولكن يمكنك التخلص من الحسد بأن تستمتع بالمسرَّات التي تأتي في طريقك، وأن تقوم بالعمل الذي عليك عمله، وأن تتجنب المقارنات التي تَعقِدها بأولئك الذين تتخيل، وأنت واهم في ذلك تماماً، أنهم أكثر منك حظاً" (راسل، انتصار السعادة).
- السلوك الأول (يطرب على الغريب):
لماذا نجد بعض مثقفي بلادنا يتفاعلون مع المثقف الأجنبي "عربياً كان أم غربياً" بصورة أكثر احتراماً ومحبة من تعاملهم مع بعضهم بعضا؟ بل تجده أحياناً يقف ويؤيد رأي هذا المثقف الأجنبي، على الرغم من أنه يعلم أن الرأي الصائب مع ابن وطنه!
كما يقول المثل العراقي "يطرب على الغريب".
ما الذي يدعوه إلى ذلك؟ لا أستسيغ مسألة أن الغيرة هي من تقف خلف ذلك، قد تكون الغيرة أحد الأسباب ولكن ليست كل الأسباب، نحن في حاجة ماسة إلى دراسات علمية لسيكولوجية المثقف العربي لتشخيص المشكلة، بناء على رأي علمي لا مجرد تخمينات وتوقعات.
- السلوك الثاني (النخبة في العالم الافتراضي "تويتر مثلاً"):
تجده يتابع عددا قليلا للغاية، وعند النظر إلى من يتابعهم لا تجدهم على مستوى ثقافي واحد، ومن ثم لا بد من استبعاد مسألة أنه يسعى للاستفادة ومشاركة الخبرات والأفكار مع من يقاسمونه ذات الاهتمامات والهموم الثقافية، أي أنه غالباً: مزاجي، انتقائي، باحث عن مصلحة، خصوصاً عندما يتابع حسابات مسؤولين كبار ويتفاعل معهم أكثر من تفاعله مع الوسط الثقافي.
هذا النوع من المثقفين أسهم في غياب الوعي عند الجماهير في إبرازهم، وبمجرد عودة الوعي للجماهير والشعوب العربية سيغيبون عن الساحة كأنَّهم لم يكونوا! بعد كل هذا نأتي إلى السؤال المهم:
هل المثقف العربي والخليجي عندما يكتب أو يؤلف أو يغرد، يريد بالفعل نهضة مجتمعه؟ هل هو يحمل هموم مجتمعه أصلاً؟ أم أنه مجرد باحث عن مكانة وهدف وراء ذلك؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة