حين يستبق أمين عام "الناتو"، ينس ستولتنبرغ، الاجتماع الأخير للحلف بتوقع امتداد نزاع روسيا-أوكرانيا لسنوات، فهذا يعني أن الحلف "الدفاعي" قبِل بشكل غير مباشر تقسيم أوكرانيا.
المقابل هو جبهة مفتوحة مع روسيا تُضعف آلتها العسكرية، وتحتوي "رغبتها" في التمدد في القارة العجوز.
هو أمر قد يلتقي مع مشيئة الروس إن استعصى الوصول إلى حلول سلمية مع كييف لإنهاء الأزمة.
فموسكو تواجه حلف الناتو على أرض أوكرانيا منذ اليوم الأول للعملية العسكرية الروسية.. ووزير الخارجية الأمريكي قال إن تهيئة القوات الأوكرانية وإمدادها بالسلاح بدأ قبل عام من العملية الروسية لأن واشنطن كانت تتوقعها.
القول إن واشنطن كانت تريد هذه الحرب بدلا من توقعها يبدو أكثر صدقاً.. فبفضلها أحكمت الولايات المتحدة قبضتها على القارة العجوز، وتمددت عسكريا واقتصاديا في دولها إلى حدود غير مسبوقة.. ناهيك بمرحلة الازدهار، التي بدأت تعيشها شركات السلاح الأمريكية، وستمتد لعقود، تلبية لحاجات الدول الأوروبية في الاستعداد "لمواجهة كبرى" مع الروس، والمشاركة في "الحرب المقدسة" للناتو فوق أرض أوروبا.
لقد أدرك الروس بعد ما يزيد على شهر من العملية العسكرية، أن أوكرانيا تحولت إلى حرب مفتوحة بينهم وبين حلف شمال الأطلسي.. تغيرت توجهات موسكو، ومضت نحو التركيز على إقليم دونباس في الشرق.. ويبدو أن هناك توجها لتقسيم أوكرانيا إلى دولتين على غرار شبه الجزيرة الكورية، إذ سيكون هذا الخيار الأمثل لروسيا حول أزمة تريد بعض دول حول العالم لها أن تستمر لسنوات أو عقود طويلة.
التقسيم هو أقرب السيناريوهات إن كان هناك من يريد استثمار الأزمة.. وليس حلها.. فالحل يكمن في مفاوضات جادة بين موسكو وكييف تنتهي بحياد أوكرانيا وإهاء فكرة الانضمام إلى حلف الناتو، مقابل استردادها كامل أراضيها، وإلا كان التقسيم في انتظار ثاني أكبر دول أوروبا مساحة إن استعصى التفاوض.
تقسيم أوكرانيا وتحولها إلى جبهة مفتوحة مع الناتو، هو فشل ونجاح للروس في آنٍ.. فإدارة هذه الجبهة على المدى الطويل هي التي ستقرر لمن تكون الغلبة في نهاية المطاف.
يحتاج الأمر إلى صبر وحكمة ودهاء من موسكو، ولكن ذلك لا يكفي إن تمكن الغرب من عزل روسيا دوليا، وهدم تحالفاتها مع دول العالم.
الحصار الغربي لروسيا بالعقوبات تتسع رقعته يوميا، فتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أظهر بوضوح كيف اتسع هذا الحصار مؤخرا مقارنة بالأيام الأولى لأزمة أوكرانيا.. وذلك من خلال ربط مصالح الدول مع الولايات المتحدة وأوروبا بالموقف المعارض لروسيا ومبرراتها في الأزمة.
الاختيار بين موسكو وواشنطن بات لزاما على جميع الدول.. والاختيار لا يعني الخسارة بالضرورة، لأن للدول مصالحها وحساباتها، وحاجة الغرب إلى التحالفات ضد روسيا يمكن أن تجعله يقدم تنازلات.
المكاسب يمكن أن تكون كبيرة، وفرصة مساومة دول مثل أمريكا أو الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا، لا تتكرر كثيرا.. المهم في الصفقات مع الغرب هو أن تراعي المصالح الاستراتيجية للدول، أي أن تنطوي على نظرة بعيدة المدى وليست آنية وضيقة في تحديد المكاسب.. فثمة ملفات كثيرة معلقة بيد أمريكا وأوروبا لم تكن لتتحرر لولا حاجة الغرب إلى حشد رأي وسلوك عالميين ضد روسيا، أو ضد محاولتها تغيير ملامح النظام العالمي الحالي، بتعبير أدق.. وهذا ليس استقراءً وإنما نقل حرفي من مسؤولي أمريكا والدول الأوروبية.
قد ينطوي تغيير النظام العالمي على كثير من المنافع للدول الفقيرة أو الضعيفة، وقد يكون العكس.. فلا يمكن التنبؤ بذلك، ولا تملك هذه الدول تحديدا رفاهية المخاطرة بكل ما تملك من أجل نتيجة غير مضمونة، خاصة أن التغيير المنشود لن يحدث بنوع من التفاهم بين القوى الكبرى، وإنما عبر خصومة وحرب لا أحد حتى الآن قادر على قراءة تداعياتها ومآلاتها بشكل دقيق، كما أنها لم تبلغ نهايتها أو تلامس حدودها الكبرى.
على ضوء المعطيات الراهنة، والتي يمكن أن تتغير بعد أيام أو أشهر، تتعامل دول العالم مع ارتدادات الأزمة الأوكرانية. وما يبدو غير منطقي أو مستحيلا الآن قد يتحول إلى خيار مثالي ووحيد بعد فترة وجيزة.
لن تكون القرارات سهلة على الجميع، ولن يتلاشى هامش الخطأ فيها ما دامت لم تتكشف بوضوح وبشكل نهائي نيّات وأهداف الغرب والروس في هذه الأزمة، التي يُخشى أن تقود إلى سلسلة نزاعات أخرى.
انعدام الأمن الغذائي بسبب أزمة أوكرانيا وحده كفيل بإشعال حروب في مناطق عدة حول العالم.. وانهيار أسواق قطاعات، مثل الطاقة، قد يؤدي إلى ذات النتيجة أيضاً.. لا أحد يستطيع تجاهل هذه الحقائق، ولا توجد دولة يمكن أن تبقى خارج تأثير هذه الأزمات إن وقعت، كما لا توجد ضمانات بألا ينتهي الأمر إلى خراب الكوكب.
يقول الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول: "لا تبحث عن أسباب الحرب في براميل البارود، بل في أَهْراء/صوامع القمح".. ولا شك أن الأزمة الأوكرانية تحمل في طياتها الكثير من الأسباب المُلغزة التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار قبل الرهان على طرف أو اختيار فريق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة