تعاني العديد من دول العالم من أزمات الموارد الغذائية بسبب التأثير المتواصل للصراع بين روسيا وأوكرانيا وموجات العقوبات المفروضة على روسيا.
منذ إطلاق روسيا "عمليتها العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، يشهد العالم نقص في إمدادات الحبوب والأسمدة، فارتفعت أسعار الحبوب والغذاء على مستوى العالم بشكل كبير، ودفعت شعوب العالم ثمنا باهظا لذلك وخاصة شعوب البلدان التي تعتمد على الواردات الغذائية من روسيا وأوكرانيا.
تعتبر روسيا وأوكرانيا أول وخامس أكبر الدول المصدرة للقمح في العالم، ووفقا لبيانات "كومتريد" الصادرة عن الأمم المتحدة تعتمد 50 دولة في العالم على استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا، ومنها كثير من الدول العربية. أظهر التقرير الصادر عن "مبادرة الإصلاح العربي" في الـ 11 من مارس الماضي أن القمح الروسي والأوكراني يمثلان أكثر من 50% من إجمالي واردات القمح للمنطقة العربية، بنسبة 34.4% من القمح الروسي، و 15.9% من القمح الأوكراني، وتعد السودان ومصر ولبنان أكثر الدول العربية اعتمادا على القمح الروسي والأوكراني. مصر باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالم، تأتي 80% من واردات القمح المصرية من روسيا وأوكرانيا، وبسبب تداعيات الصراع بين البلدين، قفز سعر الدقيق للطن في الأسواق المصرية إلى 11 ألف جنيه مصري في مارس الماضي من 9 آلاف جنيه مصري في منتصف فبراير من العام الجاري، الارتفاع الحاد في أسعار الدقيق وأسعار السلع الأساسية أدى إلى زيادة الضغوط المعيشية على الشعب المصري. أما في لبنان، وحتى قبل الأزمة الأوكرانية، كانت لبنان على حافة الانهيار المالي، ونحو ثلاثة أرباع السكان تحت خط الفقر، و22% من الأسر كانت تعاني من انعدام الضمان الغذائي، وجعل الصراع الروسي الأوكراني الحياة في لبنان أكثر صعوبة. والآن أصبح "الأمن الغذائي" الذي يعد هشا بالفعل تأثرا بكوفيد-19، والتغيرات المناخية، القضية الأكثر إلحاحا بالنسبة إلى بعض الدول العربية.
تبنت عدة دول عربية مجموعة من الإجراءات استجابة لأزمة الغذاء، مثل تنويع مصادر الإمدادات وزيادة الدعم المالي للمواد الغذائية وخفض الضرائب عليها. وتستمر مصر في اتخاذ إجراءات صارمة لضمان برنامج الخبز المدعوم، الذي يطعم 70 مليون شخص.. مع ذلك، يصعب حل أزمة الغذاء على المدى القصير، وأدت الأسعار المرتفعة للغذاء إلى عدم الاستقرار الاجتماعي، ففي الأسابيع الماضية، اندلعت الاحتجاجات في العراق والسودان ودول أخرى معارضة على ارتفاع أسعار الخبز وزيت الطهي وسلع أخرى.
أما الصين، بوصفها أكبر منتج للقمح في العالم، فإن إنتاج القمح المحلي بالكاد يمكنه تغطية احتياجاتها الذاتية. أثر الصراع الروسي الأوكراني بشكل أكبر على واردات الذرة للصين، تظهر البيانات الجمركية الصينية أن الصين قد استوردت 8.24 مليون طن من الذرة من أوكرانيا عام 2021، ما يمثل 29.07% من إجمالي واردات الذرة الصينية، لكن تستخدم معظم هذه الذرة المستوردة في إنتاج الأعلاف بدلا من الأغذية. ومتأثرة بارتفاع أسعار الحبوب والسلع الأساسية عالميا والتداعيات السلبية للوباء في الصين، تشهد أسعار الدقيق وزيت الطهي ارتفاع ملحوظ في الصين أيضا، بزيادة 4.6% و6.1% على أساس سنوي وفقا لبيانات مؤشر أسعار المستهلكين لشهر مارس الماضي، ولكن لاتزال الأسعار في نطاق التحكم، وذلك لأن إنتاج الحبوب المحلي المستقر والمتوفر يضع أساسا متينا لاستقرار أسعار الغذاء في الأسواق الصينية. ظل إجمالي إنتاج الصين للحبوب يحافظ على أكثر من 0.65 تريليون كيلوغرام لمدة ست سنوات متتالية. ليبلغ نصيب الفرد من إنتاج الحبوب 474 كيلوغرامًا عام 2021، ما يتجاوز "خط الأمان" الذي يبلغ 400 كيلوغرام طبقا للمعاير المحددة من قبل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة لمدة أربع سنوات متتالية. وإضافة إلى ذلك، يصل مخزون الحبوب في الصين عند أعلى مستويات له في التاريخ، ويشكل القمح والأرز أكثر من 70% من مخزون ضمان الأمن الغذائي وفقا لبيانات وزارة الزراعة الصينية.
الصين قادرة على إطعام أكثر من 1.4 مليار شخص، وذلك لا ينفصل عن إيلاء الصين اهتماما بالغا لتطوير الزراعة التي تعد أساس الاقتصاد الوطني للصين. ففي السنوات الأخيرة، شددت الصين عدة مرات على أهمية حماية الأراضي الزراعية والحفاظ الصارم على "الخط الأحمر" للأراضي الزراعية حيث لا تقل عن 1.8 مليار مو (120 مليون هكتار)، وأهمية ضمان أمن البذور. وخلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لإحدى مختبرات البذور في سانيا بمقاطعة هاينان في الـ 10 من أبريل الجاري، قال الرئيس شي إن موارد البذور يجب "الاحتفاظ بها بقوة في أيدينا" لضمان الأمن الغذائي. وشدد على تحقيق الاعتماد على الذات في مجال تكنولوجيا البذور والتأكد من الاكتفاء الذاتي لموارد البذور الصينية وتحت سيطرة أفضل. كما تسعى الصين إلى تحسين قدرتها على الإنتاج الزراعي الشامل وتحسين معيشة المزارعين من خلال دفع النهضة الريفية، ودعوة إلى عدم هدر الطعام لتعزيز الوعي الوطني بتوفير الغذاء وغيرها من التدابير... ويهدف كل ذلك إلى تعزيز إمكانياتها للاكتفاء الغذائي الذاتي لمواجهة عدم اليقين الناجم عن البيئة الخارجية وضمان الأمن الغذائي للصين، ولكن لا شك أن ضمان الأمن الغذائي سيظل معركة طويلة الأمد.
جعل الصراع الروسي الأوكراني العالم يدرك أهمية الأمن الغذائي بشكل عميق، فهو يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الوطني للبلد ومعيشة أبناء الشعب والاستقرار الاجتماعي. إن استمرار الصراع ليس مأساة لروسيا وأوكرانيا فحسب، بل هو أيضًا كارثة مستمرة لشعوب العالم الذين يكافحون من أجل كسب لقمة العيش. ستنتهي الحرب يوما ما، و لكن على كل بلد زرع بذور "الأمن الغذائي" في قلب أولوياته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة