لم يكن هذا أول احتجاج في المجتمع الفرنسي، فقد واجه محرر فرنسا من الاحتلال الألماني الرئيس شارل ديجول الاحتجاجات ذاتها.
قبل الخوض في هذا الموضوع، لا بد أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن المقارنة بين هذين الحدثين البارزين، أي احتجاجات 2018 وثورة الطلبة 1968؟ من الناحية المنطقية، يمكن القول إن الثورتين أو الاحتجاجين ظهرا نتيجة للأوضاع الاجتماعية والسياسية المتأزمة في المجتمع الفرنسي. وعلى الرغم من أن هناك قرابة نصف قرن يفصل بين الحدثين التاريخيين فإن التشابه والمقارنة بينهما ممكنة. لقد تغيرت فرنسا عبر هذه الفترة ولكن هذا التغيير لم يكن جذريا، لأن البنى الهيكلية والإنتاجية التي تستند إليها الجمهورية الخامسة ظلت كما هي، والسلطة ظلت تتأرجح بين قوى اليمين واليسار. متمثلة في الأحزاب المتدرجة في ألوانها واتجاهاتها إلى أن جاء الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون كرد فعل لهذه البنى التقليدية التي تحكم البلد، فأراد الفرنسيون أن يحدثوا نقلة أو تغييرا في هذا الهيكل إلا أنهم أدركوا أن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا من الخروج من إطار الأحزاب التقليدية التي لم تستجب إلى روح العصر الذي تحكمه آليات تقنية جديدة غيرت من سلوك أفراد المجتمع وأنماط تفكيره. ولكن هل يستطيع الرئيس الفرنسي الشاب أن يقدم حلولا للمشاكل المتراكمة بعصا سحرية؟ الحقوق المكتسبة في المجتمع الفرنسي التي جاءت نتيجة التراكمات التاريخية تعد مقدسة في نظر الفرنسيين ولا يمكن المساس بها.
الخطأ الذي وقع فيه الرئيس الفرنسي هو اختيار الطبقتين الفقيرة والمتوسطة لتحمل أعباء التغيير، بينما ترك الطبقة الغنية بعيدا عن أعباء هذا التغيير. وبما أن الغالبية العظمى من البرلمانيين هم من حركة التغيير التي يقودها إيمانويل ماكرون فإنهم استجابوا إلى قراراته ووافقوا عليها دون حساب لردود الفعل الشعبية
لم يكن هذا أول احتجاج في المجتمع الفرنسي، فقد واجه محرر فرنسا من الاحتلال الألماني الرئيس شارل ديجول الاحتجاجات ذاتها التي سرعان ما تحولت إلى ثورة حقيقية، إلا أن ثورة الطلبة في 1968 كانت احتجاجات طلابية، بينما احتجاجات 2018 تتكون من جميع فئات المجتمع. لكن المجتمع الفرنسي منذ ثورة الطلبة لم يتغير كثيرا. ولم يكن صدر تلك الثورة واسعا بسبب انعدام تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك. في الحقيقة أن المنتفضين الجدد ثاروا ضد اختيارهم الذي أوصل إيمانويل إلى سدة الحكم، كما أوصل شارل ديجول إلى سدة الحكم. ولكن الرئيسين لم يتمكنا من إجراء التغيير المنتظر. وتكمن جذور الثورة في أسلوب الإنتاج القديم الذي لا يزال يسيطر على المجتمع الفرنسي. البعض يندهش لأعمال العنف التي رافقت الثورتين ولكننا لو قرأنا الثورة الفرنسية وأحداثها سوف يبطل عجبنا. يقول الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو إن انتقال شعب متنور إلى البربرية أسهل من انتقال شعب متخلف نحو التنوير.. ولعل هذا العنف الذي مارسه المنتفضون لم يكن متوقعا من شعب متنور كالشعب الفرنسي. وانتخاب إيمانويل ماكرون جاء كرد فعل ضد الأحزاب اليمينية المتطرفة؛ أبرزها حركة مارين لوبين العنصرية، التي تعزف على وتر التعصب القومي والديني والعرقي. وكذلك فشل اليمين واليسار في إحداث التغيير المطلوب في المجتمع الفرنسي.
من المؤكد أن منتخبي إيمانويل ماكرون علقوا آمالا كبيرة على التغيير الذي فشل في إحداث التغييرات اللازمة في المشكلة الاقتصادية التي أشارت إليها استطلاعات الرأي منذ فترة طويلة. لعل الخطأ الذي وقع فيه الرئيس الفرنسي هو اختيار الطبقتين الفقيرة والمتوسطة لتحمل أعباء التغيير، بينما ترك الطبقة الغنية بعيدا عن أعباء هذا التغيير. وبما أن الغالبية العظمى من البرلمانيين هم من حركة التغيير التي يقودها إيمانويل ماكرون فإنهم استجابوا إلى قراراته ووافقوا عليها دون حساب لردود الفعل الشعبية. وهنا وقعت المفارقة التي لم يستوعبها الرئيس ولا الطاقم الشاب الذي يعمل معه بعد استقالة السياسيين الداعمين له كوزيري البيئة والداخلية. لا يزال الكثيرون من مستشاري الرئيس الفرنسي يعتقدون أن هذه الاحتجاجات ليست إلا فورة سرعان ما تهدأ، وهذا غير صحيح أبدا. لأن الثقة بين طرفي المعادلة السياسية نظام الحكم والمجتمع عندما تتزعزع لا يمكن استعادتها بالسرعة الممكنة.
إن الوضع الداخلي الفرنسي الهش صرف الرئيس عن الاهتمام بالمشروع الأوروبي الذي يواجه مشكلات متعددة، خاصة بعد انسحاب بريطانيا وتصريحات الرئيس الفرنسي حول الحماية الأمريكية لأوروبا من روسيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. كما حدا بالرئيس الفرنسي إلى التصريح بأن فرنسا ليست تابعة لأحد.
إن الشارع الغاضب على سياسة ماكرون الاقتصادية لا يمكن حله بقرارات مثل إيقاف زيادة الضرائب على المحروقات لأنها تشمل قطاعات واسعة من شأنها أن تتطور مثل كرة الثلج، ولا تتوقف عند حدود معينة لأن هذه الأزمة غير منفصلة عن سياق العولمة العابرة للحدود. هل يمكن أن نعزل فرنسا عن محيطيها الإقليمي والعالمي؟
لم تقتصر هذه الحركة الاحتجاجية العارمة على فرنسا، بل عبرت إلى بلجيكا.. وقد تمتد إلى أوروبا بكاملها، فلا يمكن في عصر العولمة حصر المشكلة في حدودها، فقد أضحى العالم مترابطا اقتصاديا وسياسيا، والتفاعلات لها امتداداتها وتأثيراتها.
- يثبت المجتمع الفرنسي من جديد بعد مرور نصف قرن على ثورة الطلبة 68 أن حس التمرد والاعتراض والمطالبة لا يزال نابضا بالحيوية عند الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تشكل الغالبية العظمى التي انتخبت الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون لأنهم في الحقيقة انتخبوا صورة أو أيقونة تصوروا أنها سوف تستجيب إلى تحقيق آمالها دون الانتباه إلى أن عالم السياسة ليس كله أحلام وآمال لأن الرئيس مهما كان لا بد أن يفكر في ولاية ثانية، وهو محكوم بآلية محلية وإقليمية وعالمية قد تخرج عن نطاق سيطرته في عالم مليء بالمفاجآت والمتغيرات. لكن إذعان إيمانويل ماكرون إلى مطالب الحركة الاحتجاجية هو دليل على تفاعل السلطة مع الناس، وهذا هو دليل على الديمقراطية التي تتمتع بها فرنسا، تلك التي انتزعتها عبر صراع اجتماعي طويل دعم التاريخ بأنواره التي أضاءت الطريق أمام الملايين في العالم ولا تزال. لا نعرف ماذا تحمل لنا أسابيع الإضراب المقبلة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة