انضواء الدول المكونة لما بات يعرف بمنتدى غاز المتوسط -وهو ما تدرك تركيا أبعاده جيدا- سيكون مدخلا حقيقيا لبناء تعاون جديد
لم يكن متوقعا أن تحل الأزمة الليبية بين يوم وليلة أثناء أو بعد انعقاد برلين، خاصة أن المسألة الليبية معقدة وتحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية ومواءمات متعددة وحسابات توافقية لن تقتصر على الجانب الروسي، بل أيضا إلى دور أمريكي يتجاوز تصريحات وزير الخارجية بومبيو، وإرادة سياسية من قبل المبعوث الأممي غسان سلامة لتحقيق اختراق في المواقف الراهنة، وفي كل الاتجاهات بما في ذلك في مواجهة الطرف التركي الذي ما زال يقيم المشهد وفقا حسابات ومسارات مختلفة، وهو ما برز في برلين وفي أعقابها، ومن ثم فإن ما سيجري في المشهد الليبي سيرتبط بصراع أكبر أوروبي روسي أمريكي تركي علي إقليم شرق المتوسط، باعتباره صراعا على موارد طبيعية وحقول غاز ونفط وخطوط أنابيب، وبوصفه صراعا مفتوحا علي مشاهد عديدة لن تحسم بسهولة، بل بالعكس ستكون الفترة المقبلة صراعات أكثر ضراوة في ظل قيام كل طرف بالتحرك علي المستوي الثنائي أو الثلاثي، أو المتعدد للحفاظ علي حقوقه وفقا لما يتصوره، مع وضع تصور استباقي مبكر حول احتمالات تمدد خطر الإرهاب لأوروبا انطلاقا من الأراضي الليبية، وهو ما تتحسب له جيدا فرنسا وألمانيا تحديدا.
انضواء الدول المكونة لما بات يعرف بمنتدى غاز المتوسط -وهو ما تدرك تركيا أبعاده جيدا- سيكون مدخلا حقيقيا لبناء تعاون جديد وفق أسس مصلحية للدول الأعضاء
من العام إلى الخاص فسيظل ما يجري في ليبيا مرتبطا بمواقف راسخة في الإقليم المستهدف شرق المتوسط، وهو الأهم، فما زال الموقف التركي من قبرص قائما؛ حيث لا اعتراف بالجزيرة والتمسك بالجانب الشمالي منها، على اعتبار أنها الدولة الرئيسية التي لا يعترف بها أصلا أي دولة في العالم سوى الجانب التركي، وحيث لم يعد هناك فرص لإمكانية توحيد الجزيرة، وإعادة النظر فيما يجري طوال السنوات الأخيرة، مع اتفاقيات أبرمتها قبرص مع مصر واليونان، والتي رتبت وقائع جديدة في الإقليم، كما لا يعترف الجانب التركي بجزيرة كريت، ومن ثم فإن المخطط التركي الأشمل في ليبيا يستهدف بناء معادلة جديدة للقوة السياسية التركية وفقا لمفهومه، انطلاقا من ليبيا على أن تمر إلى سائر المنطقة المغاربية بأكملها.
كذلك فإن إنضواء الدول المكونة لما بات يعرف بمنتدى غاز المتوسط -وهو ما تدرك تركيا أبعاده جيدا- سيكون مدخلا حقيقيا لبناء تعاون جديد وفق أسس مصلحية للدول الأعضاء، وهو ما سيمنح الأطراف قدرة على التوافق، بدليل توقيع اتفاق قبرص واليونان لإنشاء خط أنابيب "إيست ميد"، في ظل التوتر الراهن بين أثينا وأنقرة حول استغلال الموارد في شرق المتوسط، وسيكون خط أنابيب الغاز أمام قبرص وسواحل إسرائيل إلى اليونان، وكذلك إلى إيطاليا، ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا عبر خط أنابيب الغاز "بوزيدون" و"آي جي بي"، ومن المتوقع أن يجعل المشروع من الدول الثلاث حلقة وصل مهمة في سلسلة إمدادات الطاقة في أوروبا، ويحول دون محاولات تركيا بسط سيطرتها على شرق المتوسط. ورغم ذلك فما تزال هناك دول كإيطاليا ترفض استكمال هذا الخط من اليونان عبر أراضيها، لأنها تفضل الخط عبر الأدرياتيكي القادم من أذربيجان عبر تركيا ثم اليونان للأراضي الإيطالية، وتؤكد أن غاز شرق المتوسط يمكن أن يأتي عبر ذلك الخط.
في هذا السياق يمكن فهم أبعاد الموقف التركي من توسيع نفوذها في المياه الاقتصادية في المتوسط وتصعيد دورها في ليبيا، وهو الأمر الذي قد يهدد مستقبل مشروع خط الأنابيب الإسرائيلي لنقل الغاز الطبيعي من المتوسط إلى أوروبا، خاصة أن تنفيذ المشروع مكلف جدا، وعلى الرغم من التوقع بتفاقم الخلاف المحتمل مع تركيا ودول الإقليم، وفي ظل حالة التأزم المستمر والمتعايش معه الجانبان التركي والإسرائيلي طوال الوقت.
كذلك فإن تركيا ستستمر في مراقبة التحرك الإسرائيلي لمد أنبوب في أعماق المتوسط من حقلي "ليفياتان" و"تمار" الإسرائيليين شرقي المتوسط حتى جنوب اليونان؛ حيث يضاف هذا المشروع إلى خط أنبوب بري بطول 600 كيلومتر باتجاه غرب اليونان، وفق نهج تركي لافت (إعلان أنقرة ضم مساحات واسعة من البحر إلى منطقتها الاقتصادية الخالصة) ، ومن ثم ستتحرك تركيا لإحباط المشروع الإسرائيلي لبناء خط أنابيب تحت الماء من خزانات الغاز في إسرائيل ومصر وقبرص إلى دول أوروبية، ومن ثم سيظل الموقف التركي حاضرا في كل أنماط التحركات الراهنة للدول كافة.
كل هذه المشروعات والمخططات الجارية في الإقليم بأكمله ترتبط بصورة أو بأخرى بسياق ما يجري في ليبيا وما يجاورها، وكذلك بأسواق النفط والتعاملات الدولية المستقبلية والتي تحركها أهداف متضاربة وليست متوافقة من قبل الأطراف كافة، وعلى رأسها تركيا، وتشير بقوة لما سيجري لاحقا من سيناريوهات مفتوحة على كل الخيارات وربما ستكون السيناريوهات العسكرية تستبق الخيارات السياسية الحاكمة لمستقبل هذا الصراع في هذا الإقليم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة