استكمل الرئيس المنتخَب جوزيف بايدن أغلب ترشيحاته لتولي مناصب الوزارة والوظائف العليا في إدارته.
وبعث بهذه الترشيحات رسائل عديدة إلى الداخل الأمريكي وإلى العالم كله. رسائل تشير إلى فهمه لحجم "التركة" الثقيلة التي ورثها عن سلفه الرئيس ترامب، والمشكلات التي عليه أن يواجهها داخلياً وخارجياً. وأريد أن أركز في هذا المقال على ثلاث رسائل:
الرسالة الأولى تتعلق بالانقسام الاجتماعي الذي تشهده أمريكا اليوم، ويبدو أعمق وأشد من الانقسامات السابقة التي شهدتها طوال القرن العشرين. فهو ليس مجرد انقسام سياسي كما في حالة حرب فيتنام، أو انقسام عنصري كما في حالة حركة الحقوق المدنية والسياسية للسود، وإنما هو مزيج من هذا وذاك. إضافة إلى أزمة صحية واقتصادية بسبب وباء فيروس كورونا.
ظهر هذا الشرخ في الجسد الأمريكي في نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها بايدن بـ 81 مليون صوت مُقابل 74 مليون صوت لصالح ترامب. أدرك بايدن أن أول تحد أمامه هو ترميم هذا الشرخ، فقال مثلاً إنه خاض الانتخابات كمرشح عن الحزب الديمقراطي غير أنه سوف يحكم ممثِّلاً لمصالح كل الأمريكيين. لكنه أدرك أيضاً أن الأقوال لا تكفي فحرص على أن يختار معاونيه ممثلين لكل أطياف المجتمع الأمريكي بحيث تعكس إدارته سمات الشعب الذي تحكمه، وتكون صورة له.
رشَّح بايدن وزراء ومعاونين من أصول أفريقية وآسيوية وعربية، ولأول مرة في تاريخ السياسة الأمريكية يصل أحد الأمريكيين الذين ينتمون إلى السكان الأصليين إلى منصب الوزارة، فتم اختيار سيدة منهم لمنصب وزير دولة، ولأول مرة يتولى أمريكي من أصل أفريقي وزارة الدفاع، ولأول مرة تشغل امرأة منصب مدير وكالة الاستخبارات القومية. ولأول مرة أيضاً تم اختيار سيدة من أصول فلسطينية لتشغل منصب نائب مدير مكتب البيت الأبيض للشؤون القانونية والتشريعية، هذا بالطبع إضافة إلى أنه لأول مرة اُنتُخبت سيدة لمنصب نائب الرئيس، وهي أمريكية سمراء من أصول آسيوية.
والخُلاصة أن هذا التشكيل يُمثِّل الإدارة الأكثر تنوعاً في التاريخ الأمريكي سواءً من حيث تمثيل المرأة أو الأصول الإثنية للأمريكيين. ويزداد هذا المعنى وضوحاً عند المقارنة بإدارة ترامب التي غلب عليها الذكور والبيض.
الرسالة الثانية هي إعادة الاعتبار لمؤسسات الحكم والإدارة وإعطاء الأولوية لدورها في تسيير أمور البلاد، فقد اتَّسمت الإدارة السابقة بالدور الشخصي للرئيس واتخاذه قرارات مهمة دون العودة إلى المؤسسات المعنية. كان آخرها القرار بخفض حجم القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق وسحبها من الصومال دون تشاور مع وزارة الدفاع والقادة العسكريين. وفي كثيرٍ من الأحيان فوجئ كبار المسؤولين بقرارات اتخذها الرئيس في مجالات عملهم وعرفوا بها من خلال تغريداته على موقع تويتر.
ظهر هذا التوجه الشخصي عند ترامب أيضاً في كثرة تغيير الشاغلين للمناصب العليا، ففي خلال أربعة أعوام تولَّى خمسة أشخاص وزارة الدفاع، وتعاقب أربعة على منصب مستشار الرئيس للأمن القومي، وأربعة على وزارة الخارجية. وظهر ذلك أيضاً في اختيار ترامب لأفراد لم يكن لكثيرٍ منهم سابق خبرة أو تجربة في مؤسسات الحكومة. ففي مجال السياسة الخارجية مثلاً، تم تهميش السفراء من أصحاب الخبرة لصالح أشخاص موالين لترامب من خارج الوزارة.
وفي المقابل، تشير ترشيحات بايدن إلى حرصه على العمل المؤسسي وأن يكون معاونوه ممن لهم خبرة طويلة في مجالات عملهم.
الرسالة الثالثة تتعلق بمنهج إدارة العلاقات الخارجية وتأكيد بايدن على أسلوب المفاوضات والدبلوماسية الجماعية في تناول القضايا الدولية. وبذلك، فإنه يأخذ منحى مغايراً لترامب الذي اتَّسم تعامله مع العالم بالأحادية والانعزالية واتخاذ قرارات منفردة، فانسحبت الولايات المتحدة في عهده من عدد من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي واتفاقية باريس للمناخ والاتفاق العالمي للهجرة في عام 2017، والاتفاق النووي الإيراني عام 2018، واتفاقيتيْ الحد من الصواريخ النووية والأجواء المفتوحة مع روسيا عام 2019. كما انسحبت في عهده من منظمة اليونسكو في عام 2017، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2018، ومنظمة الصحة العالمية 2020. هذا فضلاً عن فرضه عقوبات اقتصادية دون موافقة من الأمم المتحدة أو تشاور مع حلفائه في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وفي سنوات حكمه الأربع، أصدر قرارات بفرض عقوبات على دول أخرى تجاوز عددها ضعف ما صدر في عهد أوباما الذي استمر ثماني سنوات.
أعلن بايدن عن فريق سياسته الخارجية مبكراً، وكان في ذلك إشارة إلى أن أمريكا تعود إلى العالم في صورة جديدة. وكل أعضاء الفريق ممن مارسوا العمل من قبل في هذا المجال، ويتَّسمون بالخبرة والمهنية. فجاء منهم من عمل وزيراً للخارجية، ونائباً لوزير الخارجية، ونائباً لمستشار الأمن القومي للرئيس، ومستشاراً للأمن القومي لنائب الرئيس، ومساعداً لوزير الخارجية، ونائباً لمدير المخابرات المركزية.
ويشير هذا الفريق المنسجم والذي عمل في إدارة الرئيس أوباما إلى احترامه لعملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية من خلال المؤسسات المعنية وهي البيت الأبيض، ووزارتا الخارجية والدفاع، وأجهزة المخابرات. كما يشير إلى خبراته الواسعة في مجال العمل الدبلوماسي والمفاوضات الدولية.
تشير هذه الرسائل إلى أن الرئيس المنتخَب بايدن سيبدأ صفحة جديدة من العلاقات مع الداخل والخارج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة