الحيرة كبيرة في الولايات المتحدة وربما في العالم كله في الكيفية التي سوف يخرج بها الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض.
المؤكد أنه لن يختار الطريقة التقليدية للخروج كما كان يحدث في المرات السابقة حيث تجري إجراءات الخروج في سلاسة وتبادل الإشادة بين الرئيس الذاهب والرئيس القادم. لا يوجد بالمرة طريق للخروج بأي نوع من أنواع "الشياكة" أو Style في تبادل السلطة، وما حدث منذ إعلان النتيجة حتى الآن هو تبادل للاتهامات، حيث يتهم الرئيس ترامب الرئيس المنتخب بايدن بأنه وحزبه زورا الانتخابات، ويتهم هذا الأخير سابقه بأنه يدمر الديمقراطية الأمريكية التي قال فيها الشعب الأمريكي كلمته، ولم تفلح كل محاولات الرئيس القضائية في تغيير النتيجة التي أقرها بالفعل المجمع الانتخابي. في أوقات أخرى كان الرئيس الخارج من السلطة يبحث عن حياة أكثر هدوءا، وهذا ما فعله الرئيس الأسبق باراك أوباما حينما أخذ زوجته وأولاده إلى هاواي حيث مسقط رأسه وهناك ولفترة غير قليلة كان ينام ساعات طويله، ويتناول الطعام بطريقة هادئة. ومن المعلوم أنه بعد شهور من الراحة شرع هو وزوجته في كتابة مذكراتهم الرئاسية، وأيامهم في البيت الأبيض. مثل هذا التقليد يحدث مع كل الرؤساء تقريبا، بعضهم يضيف في وقت مبكر البحث عن تمويل لإنشاء مؤسسة خيرية كبيرة كما فعل بيل كلينتون، وكلهم يقيمون مكتبة تضم أوراقهم وما يريدون تركه للتاريخ، أما المفوه منهم فإنه يدرج نفسه في جدول المحاضرات العامة، والمقابلات التلفزيونية المجزية كما فعل ريجان وكلينتون و أوباما ومن قبلهم كثيرين.
حتى وقت كتابة هذا المقال فإن ترامب لم يعط الإشارة أنه سوف يخرج من البيت الأبيض، ولا ما سوف يفعله بعد الخروج منه. وفي الحقيقة فإنه يمارس السلطة بالطريقة التي تشير إلى أنه سوف يبقى فيها إلى الأبد، وفي الواقع فإن المؤسسات الأمريكية المختلفة لا تعرف ما سوف تفعله إذا لم يغادر الرئيس البيت الأبيض، وهل تعامله كمجرم يخالف القانون، أم يتم تخديره ونقله بعيدا. الحقيقة أن لا أحد يعرف، فلا توجد سوابق في الأمر يمكن أن يقاس عليها، وكل ما فعله الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأمريكية "جون آدامز" الذي كان غاضبا من انتخاب توماس جيفرسون، وحاول التشكيك في نجاحه، فإنه ركب حصانه وفي مصاحبة مركبة تجرها أحصنة ترك فيلادلفيا التي كانت لا تزال العاصمة الأمريكية إلى موطنه في مدينة بوسطن في ولاية ماساشوستس. ترامب لم يغضب فقط وإنما اتخذ من الإجراءات ما يجعل رئاسته مستمرة حتى النهاية التي لا يعرفها أحد، وهناك من التسريبات التي تجعله يوكل حزمة من المحامين للاعتراض على قرار الكونجرس بتنصيب بايدن في السادس من يناير القادم، ولا يعلم أحد ماذا سوف يفعل بالنصيحة التي جاءته من ما يكل فلين مستشاره السابق للأمن القومي، والذي نصحه بإقامة الأحكام العرفية في البلاد والدعوة إلى انتخابات جديدة.
في حديث لمايكل دانتنونيو منشور على شبكة السي إن إن في ٢٢ ديسمبر الجاري تحت عنوان "استراتيجية الخروج السخيفة لترامب" ذكر " يتساءل ترامب عن تعيين مستشار خاص للتحقيق في هزيمته البالغة ٧ ملايين صوت. وبعد سنوات من نظريات المؤامرة والأكاذيب والغضب، يبدو أن الرئيس يحول المكتب البيضاوي إلى مسرح تم إعداده للمشاهد النهائية للدراما ذات الجودة التوراتية - وبشكل أكثر تحديدًا، قصة المحارب الإسرائيلي الفائق القوة شمشون، الذي قال "دعني أموت مع الفلسطينيين!" وفي إسقاط المعبد مات مع أعدائه.
وعلى الرغم من أنه ولد بثروة هائلة ومتمتع بالرفاهية، فقد تحدث ترامب في كثير من الأحيان كما لو أنه ينظر إلى حياته على أنها معركة من أجل البقاء. أولئك الذين يرفضون أن يعطوه ما يشاء - حكام، نواب، صحفيون إلخ - يصبحون أعداء. في الأيام الأخيرة من رئاسته، اتحد الأعداء ونتيجة الانتخابات والدستور إلى جانبهم. يبدو أن الرئيس يحول البيت الأبيض إلى معبد للبارانويا". هل الإشارة هنا لأسطورة "شمشون" محض صدفة بينما يحشد الرئيس الأمريكي قوات ضاربة كثيفة في الخليج العربي، في الوقت الذي تقصف فيه مليشيا الحشد الشعبي العراقية مقر السفارة الأمريكية في بغداد، فيكون هناك السبب وحتمية الرد العنيف؟ لا أحد يعرف الرد على هذا السؤال ربما هو خوف من تراجيديا مبالغ فيها، ولكنها في أيام وساعات ترامب الأخيرة تبدو مناسبة للغاية للأجواء التي وفرها لساعة الخروج.
مايكل كوهين المحامي الخاص لترامب لعشر سنوات، والذي خرج عن دائرة نفوذه ناشرا كتابه "مذكرات خائن" في السابق أجرى الكثير من الأحاديث الصحفية التي تنبأ فيها بمستقبل ترامب، وعلاقة ذلك بما يفعله الآن. " أريدك أن تفكر فيما يفعله ترامب على أنه لا يختلف عما لو كنت تشاهد The Apprentice (البرنامج التلفزيوني الذي كان يقدمه ترامب واشتهر به). هذا كله عرض واقعي، فترامب يعرف أنه خسر الانتخابات... لكن المشكلة هي أن غروره هش بشكل لا يصدق وأن غروره الهش لن يسمح له بالاعتراف بأنه خاسر، وأنه خسر الانتخابات أمام جو بايدن. ... وعندما تنتهي من عمل ما، فأنت تفكر دائمًا في كيفية إعادة ابتكار نفسك. هذا ما يفعله دونالد ترامب الآن. إنه يعلم أن قصته القادمة ستتمحور حقًا حول شبكة أخبار ترامب. لهذا السبب يقاتل مع فوكس (المحطة التلفزيونية المحافظة والمؤيدة للحزب الجمهوري) كل يوم. إنه يتطلع للحصول على قاعدتهم. لأنه من خلال منصته على وسائل التواصل الاجتماعي التي تضم ٩٠ مليون متابع، وهو يعرف أن من بين هؤلاء ٢٠ مليونًا معجبون بترامب، ومنهم من يريد فقط ٤.٩٩ دولارًا في الشهر. ... وهذا يعني ١٠٠ مليون دولار في الشهر أو 1.2 مليار دولار في السنة". هل هذا ما يسعى إليه ترامب حقا في النهاية، وإذا كان ذلك كذلك فلماذا يعترض في أيامه وساعاته الأخيرة على تشريع الكونجرس الخاص بتقديم حزمة إنعاش جديدة للأمريكيين للخروج من أزمة ركود كورونا؛ وبدلا من تقديم ٦٠٠ دولار لكل أمريكي يطالب بتوزيع ٢٠٠٠ دولار للفرد أو ٤٠٠٠ دولار للأسرة؟ ولماذا يعترض على تشريع الكونجرس الخاص بميزانية الدفاع؛ وكلا التشريعين استغرقا جهودا مضنية للتفاوض بين مجلسي النواب والشيوخ، والديمقراطيين والجمهوريين، وهو باعتراضه يعيد الجميع إلى المربع الأول.
مثل هذا الموقف يشير إلى مرشح يريد أن يثبت أمام الرأي العام أنه يحمل في مواقفه محتوى يأخذ مصالح الناخب في اعتباره، وهو موجه إلى قاعدته الانتخابية التي تنظر إلى الديمقراطيين والجمهوريين الذين وافقوا مؤخرا على نتيجة الانتخابات بشك كبير. وهو ما يقودنا إلى أن ترامب يحضر لأرضية الترشح في الانتخابات الأمريكية القادمة في ٢٠٢٤، ومن الآن، ومن ساعة خروجه من البيت الأبيض. ترامب يعرف جيدا أنه عندما يؤدي الرئيس المنتخب جو بايدن اليمين الدستورية، فإن قائمة الأزمات التي سيواجهها تشمل تدخلًا إلكترونيًا من روسيا، ووباء عالميا، وانتعاشا اقتصاديا متباطئا، وحسابا طويل الأمد للتوترات العرقية في البلاد. وكل ذلك يجعل ترامب يذهب إلى أبعد الحدود لتعطيل وتقويض الانتقال التقليدي من إدارة إلى أخرى على الرغم من الأزمات العديدة في البلاد؛ وهو يريد للمعركة الانتخابية أن تبدأ من الآن وحتى قبل مغادرته للسلطة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة