يمر الإعلام الأمريكي بأزمة وجودية لأكثر من عقد من الزمان كما هو الحال في معظم أنحاء العالم المتقدم.
بسبب تضاؤل عائدات الإعلانات وانتشار الإعلام الرقمي وجائحة كورونا وغيرها من القضايا التي أدت إلى تفاقم هذه الأزمة التي لن تشهد نهايتها قريبًا، ثم جاء عهد صعود المنصات الرقمية والاجتماعية إلى ممارسة ضغوط لا هوادة فيها على المؤسسات الإخبارية الرئيسية، خاصة في تعاملها مع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لم يمنحها فرصًا للتفاعل رغم كثرة الحديث عنه.
كان ترامب يشّنُ المعارك تلو الأخرى مع الصحافة، لكن ذلك لم يضعفها بل زادها قوة، وهذا ما دفع بعض الإعلاميين إلى اعتبار ترامب محركًا لشبكات الإعلام ومنصاتها، أما الرئيس الحالي جو بايدن فهو على العكس من ترامب، الذي نسج علاقات طيبة مع الصحفيين رغم زلاته الطفيفة في عهد باراك أوباما الذي كان نائبا له، إلا أنها لم تكن تؤثر على سياسة الولايات المتحدة وعلاقاتها مع العالم، ولم تؤد خطاباته إلى أزمات سياسية دولية كبرى أو إلى تصاعد التوترات العرقية وغيرها.
منذ تولى بايدن سدة الحكم في البيت الأبيض وهو يسعى إلى إعادة مصداقية الصحافة بعد أن فقدتها خلال عهد ترامب، على الرغم من أنه أصبح النجم الإعلامي الذي يرفدها بقصص مثيرة وجديدة يفضلها الجمهور على آراء الخبراء والمحللين الرصينة حتى بعد خروجه من البيت الأبيض.
ولكن السؤال المطروح هو: هل وسائل الإعلام تصنع هدنة مع بايدن لتنفجر في وجهه بعد انقضاء شهر العسل أم أنها ستمنح الرئيس وقتًا أطول من فترة المئة يوم المعتادة التي يمر بها الرؤساء الجدد في كثير من الأحيان؟
الصحافة، بصورة عامة، ومعظم وسائل الإعلام سعيدة بفوز بايدن في الانتخابات الرئاسية أو أنها بالأحرى سعيدة لخسارة ترامب وعهده المثير للجدل في الصحافة، غير أن وسائل الإعلام الحالية سوف تمنح بايدن مزيدًا من الوقت، نتيجة حالة الاستثناء مع جائحة كورونا، والأزمة الاقتصادية والتوترات العرقية والانقسامات السياسية والتركة الثقيلة التي تركها سلفه وغير ذلك.
بعد سنوات من الكذب على الصحافة وتشويه سمعة وسائل الإعلام من خلال إطلاق ترامب صفات ونعوتا شتى عليها مثل "الأخبار الكاذبة" و"عدوة الشعب"، عاشت وسائل الإعلام مرحلة حرجة من حياتها المزدهرة التي شهدتها في الأعوام الأخيرة قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ومساحاتها الواسعة، إلا أن الصحافة الأمريكية تنشغل حاليًا بملفات عديدة يعمل فريق الرئيس بايدن على تطويرها أو إيجاد حلول لها.
ولعل علاقة بايدن الطيبة مع الصحافة تعود إلى أنه سياسي مخضرم، ويتعامل بذكاء مع الصحافة، رغم ضعفه ومزاجيته وغموضه في بعض الأحيان، ولكن الخبراء يتصورون أن ما يقوم به البيت الأبيض هو محاولة لكسب الوقت، وبعدها قد تعود حرب الخنادق بين الصحافة والرئيس.
مما لا شك فيه أن الرجلين، أي ترامب وبايدن، مختلفان في اهتماماتهما، حيث ركز ترامب على مشاهدة قنوات ووسائل فوكس، نيوزماكس، وأمريكان نيوز وان، فيما يركز بايدن على متابعة الكلاسيكيات مثل: نيويورك تايمز، ذي واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، وأحيانًا الإيكونوميست ونيويوركر، كما يحرص على قراءة كتّاب الأعمدة من أمثال توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز، وعندما كان بايدن نائبا للرئيس أوباما كان يفضّل القراءة على مشاهدة الأخبار التلفزيونية، فيما عدا بعضها مثل برنامج مورنغ جو، وبعض البرامج في إم إس إن بي سي، وقناة سي. إن. إن، ويتعقب الأحداث في وقت متأخر من الليل.
يبدو أن الرئيس بايدن تعلم من حملته أنه يمكن تجاهل وسائل الإعلام والصحافة والسخرية من تويتر التي كانت منصة ترامب المفضلة، وقد استفاد بايدن من فضائح ترامب الرئاسية وزلاته المثيرة، لذلك ركز على إعادة الثقة إلى الصحافة وإبداء احترام لها، على الرغم من أنها لم تكن تنظر إليه بجدية أيام كان نائبا للرئيس.
وطيلة ثماني سنوات أتقن بايدن فن لعب دور البديل، وحضور مراسيم الجنازات الرسمية، وتمثيل الولايات المتحدة في كأس العالم، وتنفيذ حملات انتخابات التجديد النصفي، وغيرها من الأعمال الهامشية، لكنه في ظل أوباما لم يتخل أبدًا عن حلمه الكبير بأن يصبح سيد البيت الأبيض ذات يوم، وتحقق حلمه أخيرًا لكنه لم يتخيّل نفسه أن يأتي إلى البيت الأبيض محصّنًا في سيارة "همفي" المدرعة التي تشق شوارع واشنطن كما لو أنه قائد غزوة عسكرية، تلك الأوضاع خلقها سلفه الذي ظل على عناده وإصراره على عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، ودفع أنصاره إلى الهجوم على الكابيتول.
لا بد من القول إن ما فعله بايدن هو إعادة المصداقية ليس إلى الحكومة الأمريكية فقط بل إلى الصحافة أيضًا. نحن أمام مشهدين، المكتب الصحفي في البيت الأبيض الذي يسعى إلى تصوير الرئيس وقراراته في أفضل صورة ممكنة، ووسائل الإعلام في خارجه التي تقول الحقيقة بكل تدرجاتها ومعانيها.
لكن بايدن وعد العالم في حملته الختامية "بعالم جديد قادم"، وطلب من الأمريكيين أن يصوتوا إلى "الشرف" و"اللياقة" و"احترام المنصب" و"الحقيقة" التي كانت مفقودة في زمن ترامب الذي هدر هذه القيم وجعل من المكتب الصحفي بوقًا لنشر الأكاذيب وتلفيقها، واضطرها إلى أن تكون عدائية وعنيفة.
هكذا مهّد بايدن الطريق نحو العودة إلى "الحياة الطبيعية" السائدة قبل ترامب من خلال اختياره جنيفر بساكي، 42 عاما، التي أعجب بعملها وخلفيتها في وزارة الخارجية أيام جون كيري، وهي من المخضرمات في إدارة أوباما على الرغم من أنها لم تشارك في حملته، وهي الشخصية التي ينظر إليها الصحفيون على أنها عادلة ويمكن الوصول إليها، وتجسد مبدأ العودة إلى نهج الحياة الطبيعية. في البيت الأبيض تعتزم السيدة بساكي إعادة المؤتمر الصحفي اليومي الذي تم إلغاؤه تدريجيًا خلال السنوات الأربع الماضية والعمل على استئنافه. ورغم قيود الوباء صرحت بأن جزءًا أساسيًا من وظيفتها هو استعادة الثقة بالكلمات التي تُنطقُ من خلف المنصة وليس كما كان معتادًا في عهد ترامب. كانت كايلي ماكناني، السكرتيرة الصحفية لترامب، تفضّل البقاء في الدائرة المقربة من الرئيس ولم تبذل جهدًا للوصول إلى المراسلين أو للتفاعل مع الصحفيين، فيما يقابل ذلك انفتاح السيدة بساكي على الصحفيين والمراسلين.
ما يميّز بايدن أنه يركز على الشأن العام أكثر من تركيزه على نفسه كما كان سلفه يفعل، وربما ما يجمع بين ترامب وبايدن أنهما عاشا غريبين عن عالم واشنطن الاجتماعي بكل تشابكاته المعقدة، وهذا يشكل جزءًا من توتر ترامب مع الصحافة، بينما يحاول بايدن أن يبدو أكثر جدية في التعامل مع الصحافة؛ إذ حاول أثناء عمله كنائب للرئيس أن يفهم عالم واشنطن الاجتماعي من خلال الإصغاء إلى حكماء واشنطن وكتّاب الأعمدة في كل من صحيفتي واشنطن بوست والتايمز.
والسؤال المطروح هنا هو: هل سيعيد بايدن إلى الأذهان الأيام الخوالي لوسائل الإعلام؟ وهل يتمكن أن يحكم بهدوء وسط مناخ إعلامي يميل إلى التعاطي مع الفوضى؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة