مكتبات نادرة على الرصيف وأخرى تموت في البيوت (1-3)
سعر الكتاب يرتفع إلى أضعاف ثمنه العادي، إذا حمل إهداء بخط يد المؤلف لشخصية معروفة أو إذا كان المؤلف نفسه شخصية معروفة
نهايات مأساوية وحزينة تشهدها آلاف الكتب كل يوم تكتب سطورها قوانين الوراثة التي أعطت للورثة الشرعيين حق الوصاية على المكتبات الخاصة التي ينفق أصحابها ثرواتهم لتأسيسها أثناء حياتهم.
ربما بات أمرا طبيعيا أن نشهد يوميا ضياع ثروات فكرية نتيجة حرمان المؤسسات الثقافية من كتب ومخطوطات نادرة لا تقدر بثمن، يتركها أصحابها في عهدة ورثتهم لكن مصيرها ينتهي إلى أرصفة الشوارع أو المصير المجهول مع عمليات بيع غير واضحة المعالم.
المصير المجهول لهذه الكتب يلقي بها أحيانا إلى سور الأزبكية وإلى تجار الكتب الذين يستنزفونها عبر عمليات بيع تؤدي لخروجها، ما يهدد بفقدان ثروة معرفية نادرة، خاصة وأن مكتبات أخرى شهدت نهايات أكثر مأساوية يكشفها هذا التحقيق.
مغلق بالأقفال
تقدم مكتبة "المفكر الإسلامي" الراحل جمال البنا مثالا حيا وصارخا على مخاطر قيام الورثة باحتكار ثروة فكرية قوامها 15 ألف كتاب عربي و3 آلاف كتاب أجنبي، علاوة على الطبعات النادرة والدوريات والموسوعات.
عقب وفاة الراحل وقعت المكتبة أسيرة تسلط وتحكم الورثة الشرعيين، وأولهم المحامي الإخواني أحمد سيف الإسلام حسن البنا، وبعض الورثة الذين قاموا بغلق المكتبة بالأقفال في 30 يناير/كانون الثاني عام 2013، وتزامن هذا الإجراء خلال فترة حكم الإخوان المسلمين.
وكانت مكتبة البنا، موجودة في 195 شارع الجيش بالقاهرة، ومثلت مصدرا رئيسيا للباحثين المهتمين بالتاريخ الإسلامي وحركات الإسلام السياسي في العصر الحديث، كانت تضم معظم وثائق تأسيس جماعة الإخوان ومجموعة من صحفها منذ 1936.
ومعروف أن جمال البنا الشقيق الأصغر لحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية، والذي عارض فكرهم بشدة ونشر حوالي 10 مجلدات من وثائق الجماعة وسط اعتراض وهجوم شديد منها.
واللافت أن سيناريو الإغلاق نفسه تكرر لكن باختلاف أبطال القصة وبعض من أحداثها، مع مكتبة "المستشرق" التي كان يمتلكها الفنان الراحل حسن كامي، وعقب وفاته في ديسمبر/كانون الأول 2018 تنازع الورثة الشرعيون مع محاميه عمرو رمضان، الذي ادعى شراء المكتبة من الفنان الراحل قبل وفاته نظير مليون جنيه.
ونجحت وزارة الثقافة المصرية في التحفظ على المكتبة وتسلم مقتنياتها لصالح الدولة لاحتوائها على كنوز علمية وأدبية لا تقدر بثمن بعد تسوية مع الورثة.
وكان النزاع حول المكتبة وصل إلى النيابة المصرية، التي قامت بدورها بإغلاقها، حتى حسم الأمر بعقد بيع مبدئي من ورثة كامي لصالح دار الكتب.
ضمت المكتبة أكثر من 40 ألف عنوان، ولوحات فنية نادرة، بينها مخطوطة واحدة ضمن 3 فقط حول العالم من كتاب "وصف مصر"، ونسخة من مجموعة كتاب "بروس عن نهر النيل" والمؤلف من 5 أجزاء، كُتبت في القرن الـ18، بالإضافة إلى الأطالس النادرة الخاصة بمكتبة "هاشيت" الفرنسية، والتي حرقت ودمرت في الحرب العالمية الثانية، وكتب الاستشراق الأولى.
المكتبة ضمن محتوياتها 5 نسخ من كتاب وصف مصر، وكلها نسخ أصلية وتم بيع نسخة منها بمبلغ 400 ألف جنيه، وتم بيع لوحة الغروب للمستشرق ديفيد روبرت لرجل أعمال أمريكي من أصل مصري، بمبلغ 180 ألف جنيه، وخريطة لمصر ترجع لعام 1773 بـ35 ألفا.
احتكار بالوراثة
قصة أخرى حزينة يرويها زين العابدين محمد، أحد تجار سور السد الموجود بحي السيدة زينب وسط القاهرة، حيث يوضح أنه قام بشراء مكتبة الكاتب الصحفي الراحل عبدالعظيم مناف، مؤسس دار "الموقف العربي" التي صدرت عنها مجلة "صوت العرب" وجريدة "الموقف العربي"، وكانت الدار مفتوحة أمام القراء بدون رسوم، وكانت تحتوي على الكثير من الكتب العربية النادرة، وروايات لمختلف المبدعين العرب.
وبعد وفاة مناف في 17 أغسطس/آب 2016، تم إغلاق الدار وقرر الورثة الاستغناء عن الكتب وبيعها لتجار سور السيدة زينب.
بائعو "الروبابيكيا"
وعن كيفية وصول مكتبات المشاهير إلى الأرصفة، يقول محمد جابر غريب، صاحب مكتبة لبيع الكتب القديمة في سور السيدة زينب: "بعد وفاة المثقفين يقوم أبناؤهم أو زوجاتهم أو الورثة الشرعيون ببيع مكتباتهم إما للتجار مباشرة أو لبائعي الروبابيكيا".
ويوضح غريب لـ"العين الإخبارية" أن أسعار المكتبات لأشخاص غير معروفين تتراوح ما بين 300 جنيه إلى 3 آلاف جنيه حسب تقدير التاجر، أما مكتبات الشخصيات المعروفة فلها أسعار أخرى حسب أهميتها، مضيفا أن معظم من يلجؤون لبيع المكتبات بهذه الطريقة، حتى ولو كانوا ورثة شخصيات عامة، لا يدركون قيمتها.
ويقول حسين عادل، تاجر متخصص في بيع كتب قانون في سور الأزبكية، "اشتريت مكتبات مهمة لأعلام القانون منها مكتبة الدكتور عبدالمنعم فرج الصدة، والدكتور سليمان مرقص، والدكتور محمود محمد أبوزهرة".
وعن طريقة الشراء يوضح: "لم أشتر هذه المكتبات من أصحابها لكن الشراء تم عن طريق بائع الروبابيكا الذي اشتراها من الورثة مباشرة".
ويكمل حربي محسب، تاجر الكتب على سور الأزبكية، سرد تجارب أخرى في شراء الكتب القديمة قائلا: "اشترى والدي مكتبة الكاتب الراحل سلامة موسى ومكتبة الفنان حسين رياض من ورثتهما، لكن لا أتذكر محتوياتهما بالضبط أو أسعارهما".
ويضيف: "شراء مكتبات المثقفين والمشاهير كان ولا يزال أمرا شائعا جدا مع اختلاف طرق البيع والشراء التي تطورت ووصلت إلى الإنترنت خارج وداخل مصر".
الخطوة الأهم بعد شراء المكتبة هي مرحلة فرز الكتب وتصنيفها وإعادة تسعيرها وهي مرحلة يقوم بها أصحاب الخبرة، ومنهم سمير أبوالعلا تاجر كتب قديمة في شارع رمسيس، وأحد الذين يتولون تنظيم سور منطقة الإسعاف (وسط القاهرة) يوم الأحد من كل أسبوع.
اعتاد أبوالعلا شراء مكتبات قديمة من ورثة غير مهتمين بالثقافة، أو زبون قديم، أو مكتبات تقوم للتصفية، ومنها دور نشر كانت لها سمعة كبيرة مثل دار "شرقيات" ودور مثل "سيناء للنشر"، "المستقبل العربي"، ورثة "مكتبة مدبولي" الذين باعوا حوالي 40 طنا من الكتب منذ فترة قريبة.
ويكشف أنه اشترى مكتبة أحد المثقفين المصريين من حوالي أسبوع بـ25 ألف جنيه، وتضم حوالي 3 آلاف كتاب، وهو روائي وصحفي معروف عرض بيع مكتبته مقابل 35 ألف جنيه وبعد التفاوض اتفقا على مبلغ أقل.
ويستنكر سمير إهداء الكتب لمؤسسات لا تدرك قيمتها، مستشهدا بإهداء مكتبة عالم أزهري لمؤسسة "رسالة"، قائلا: "هذه مؤسسات لا تدرك القيمة الحقيقية للكتب وفي النهاية تباع الكتب بالكيلو".
الإهداءات الخاصة "لأعلى سعر"
يقول سمير إن السعر الأعلى غالبا يكون للكتب القديمة النادرة، ولها حاليا رواج خارج مصر ويتم بيعها بأسعار مرتفعة جدا، وهي سوق رائجة على الإنترنت.
ويوضح سمير أنه عرض على الكاتب محمود أمين العالم شراء مكتبته أو شراء جزء منها، إلا أن العالم رفض وقال إنه ينوي التبرع بها لمكتبة الإسكندرية أو لدار الكتب.
وحسب رأيه: "يرتفع سعر الكتاب إلى أضعاف ثمنه العادي، إذا حمل إهداء بخط يد المؤلف لشخصية معروفة أو إذا كان المؤلف نفسه شخصية معروفة".
___
في الحلقة الثانية: كتب في يد أمينة.. ومكتبات تموت في البيوت
aXA6IDE4LjExOS4xNjcuMTg5IA== جزيرة ام اند امز