في "كتاب النوم": من هو النائم ومن هو المستيقظ؟
كتاب جديد للقاص والكاتب المصري هيثم الورداني صادر عن "دار الكرمة" للنشر وطرح أخيرا في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2017.
"بلاط المنازل يتشقق لتخرج منه سيقان خضراء، والنوافذ تتحطم لتخرج الأغصان، الأسفلت يغور ليجري فوقه الماء، المباني تتضعضع لتصبح أعشاشا وأوكارا، الحوائط تتزحزح، والشوارع تتغير.
المدينة نفسها، وقد خرجت عن طوع أصحابها، ودخلت زمنا آخر، واستسلمت لقوة أخرى.. وعلى خلاف مدينة أهل الظاهر المتسارعة يحدث كل شئ هنا ببطء(..) نظل هكذا حتى يبزغ الصباح، فيلتئم البلاط، وتغور الأشجار، وتنهض المباني، وتعود الحوائط إلى مكانها، وتنبسط الطرقات وتجري فوقها السيارات، يعود البشر، ويفر الموتى".
مشهدية ممسوسة بالسينما، ببصرياتها وتحكمها المدهش في الزمن، هي إحدى حيل الكاتب والقاص المصري هيثم الورداني في تقديم مشروعه الأدبي "كتاب النوم"، الصادر عن "دار الكرمة" للنشر والذي طرح أخيرًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2017.
الكتاب يحرضك على الفضول منذ عتبته الأولى، وهي عنوانه السهل الممتنع "كتاب النوم"، تتساءل: هل هو كتاب عن صعوبات النوم؟ هل هي مجموعة قصصية أو نوفيلا عن الأحلام والكوابيس؟
فهرس الكتاب، الذي يقع في 134 صفحة، يعج بالعناوين القصيرة، بتصفحك الكتاب تتراءى لك فقرات "مينيمالية" أقصر من اعتبارها فصولا للكتاب، بل قُل فقرات متسلسلة رغم انفصالها الظاهري، يُراكم فيها الكاتب تشييد عالم كامل منسي، بإعادته طرح الأسئلة وبحرفيته في القص.
نُودع العالم
ولكن كيف رصد الورداني هذه الظاهرة الميتافيزيقية؟ أو كيف فتح "صندوق النوم المظلم" حسب تعبير الشاعر والروائي ياسر عبد اللطيف، في تقديمه للكتاب على غلافه الأخير.
عدّد الورداني، 44 عاما، زوايا قراءة النوم، في أغلب الوقت كان يتحاشى التعامل معه كظاهرة غير مرئية خارقة، فأقدم على اختراقها بصبر ودأب وأحالها لكائن حي مرئي يمكن تتبع خطواته وهو يخوض في الحياة والاجتماع وحتى السياسة، كائن له أثر فراشة، رقيقة الملمس أحيانا وهادرة أحيانا أخرى، تارة يُلبس النوم رداء المُخلص من أوجاع العالم "نودع العالم ونضع رؤوسنا على الوسائد..لكننا لا نودعه ونحن حزانى وإنما ونحن مفعومين بالأمل، فهناك في قلب الظلام سرعان ما سنلتقي أملا ينمو بهدوء أملا يقوى عوده كلما أوغلنا في الليل، أملا في الاستيقاظ أملا في أن ينجلي الظلام، أملا في الغد، أملا في بداية جديدة، أملا في أننا عندما سنفتح أعيننا غدا سيكون كل شئ على ما يرام".
هدر أم هدية؟
الأمل "ثيمة" يطوف حولها الكاتب، يُجدد النوم فرصه في الحياة والصمود: "هذا الأمل يونع في جوف الليل كثمرة تنمو في الظلام، وتزداد حلاوتها كلما ازدادت حلكة الليل، الوصول إلى تلك الثمرة هو هدية النوم، فكل نوم هو ممارسة حقيقة للأمل تدريب طويل على الانعتاق والتحرر، لكن إلى ماذا يستند هذا الأمل؟"
ما أن يغرس داخلك الورداني قيمة مضافة لساعات نومك التقليدية، ويجعل منها ملاذا ومصنع للأمل، يطيح بك إلى الضفة النقيضة، حيث عدمية النوم كفكرة: "ترى ماذا يمكن لإنسان التاريخ أن يفعله أمام هذا الهدر اليومي؟ماذا يمكن أن يفعل بكل ساعات النوم تلك؟يقلصها قدر الإمكان؟ينساها تماما فور استيقاظه؟يكبسها فوق بعضها ويجعل منها رقائق ثم يأكلها؟يسير وسطها كما يسير وسط أوراق الخريف؟ يترك نفسه لها؟ ماذا يفعل؟"
يعود في مكان آخر مجددا غرس تلك العدمية "التاريخ لا ينتظر النيام حتى يستيقظوا وإنما يكتبه المستيقظون وحدهم، إذ ما الذي يستحق التسجيل في ساعات النوم لكي يجعل كتب التاريخ تضعها في حسبانها؟ ساعات زائدة لا نفع منها ولا شفع".
ميلاتونين
لغة الكاتب ومفرداته مُثقلة بالصور ومُرصعة باستخدامات جديدة للغة، تتأملها الشاعرة إيمان مرسال في تقديمها للكتاب "كيف استطاع الورداني أن ينفض التراب عن الكلمات، أن يُسكنها أسئلته وصمته بهذه الخفة، بهذا الجمال!"، فهو يُمرر بها فلسفته عن النوم ، أحيانا مستخدما تقنيات علمية بحتة في ذلك، تقع عينيك على مصطلح "الميلاتونين" الذي تطالعه في الدوريات العلمية، ويُلبسه رداءً أدبيا في فقرة بعنوان "أوان العودة": "عندما تغيب الشمس تنتبه إحدى تلك الشعيرات إلى اختلاف الضوء فتبدأ في إفراز هرمون الميلاتونين في جسم الإنسان يتسبب في تغيرات فسيولوجية تعده للنوم مثل انتظام التنفس وانخفاض معدل ضربات القلب وهبوط بسيط في درجات الحرارة".
ليس العلم فقط، نوّع الورداني مصادر بحثه في معضلة النوم، باحثا عن فلسفات فالتر بنيامين في مشروع البواكي:"الاستيقاظ الآتي يقف كحصان الإغريق الخشبي في طروادة الأحلام"، الذي قال أيضا إن "كل استيقاظ حقيقي هو إعادة تشكيل للواقع"،وعرّج لدى فلسفة جان لوك نانسي في كتابه "السقوط في النوم" وموريس بلانشو كذلك.
مصاص دماء
"الساعة التي يتمدد فيها ألم العالم إلى ما لا نهاية.. اليوم ينتهي فقط لمن ينام، أما الساهر فهو يتشبث باليوم ولا يريده أن ينقضي، وعندما ينبلج الصبح يعرف الساهر أن الرحلة قد اكتملت، فاليوم لم ينته بل بُعث من رماده، ويعود إلى بيته كمصاص دماء شاحب يبحث عن ملجأ من أشعة الشمس الحارقة، أما من ينام فيستيقظ على يوم جديد في انتظاره يلتقطه كهدية ألقتها معجزة أمام بابه".
هذا مقطع من فقرته "العنقاء"، جانب من الساحة الأدبية المشتركة التي سخرها الورداني لأبطال عالمه، أبطال قوامهم الليل والنهار، البكور والسهر، الشرود والتأهب، الثورة والهزيمة، وحتى الأحياء والموتى.
حكاية قبل النوم
فالأحياء والموتى في نصوص الورداني يلتقون دون إذن مسبق، تحت سقف واحد، يتحاورون ويضحكون.. يلتقون عبر قصصه القصيرة التي نثرها الورداني في كتابه، منها "أحلام القطط" و"لحم ودم"وغيرهما، علاوة على قصصه المستوحاة من أساطير البحر ورسائله على نهج "أيسوبي" ناسجا فيها حوارا يانعا بين صياد وسمكة ذات عين ذهبية في "حكاية قبل النوم"، وضع الحكمة على لسان السمكة ليجعلك كصياد قصته تتساءل: من هو النائم ومن هو المسيقظ؟
الموتى في "كتاب النوم" أحرارا ومُنتظرين دوما بالشوق، يُطلقون أسئلتهم ويفتحون حوارات عابرة، كذلك الذي دار بين الراوي ووالده الراحل ولخّص به خصوصية علاقتهما: "كانت هذه هي طريقتنا المعتادة في التواصل، فكلانا ينحدر من سلالة القطط، لا نستطيع السير في خط مستقيم، ولا نستطيع قول أي شيء مباشرة، بل نسلك برضا تام طريقا متعرجة طويلة لقول شيء بسيط".
ولادتان
قصص الورداني تتشابك مع الأحلام التي يراها النائم كما في"معركة حقيقية" وأحيانا تمر كأضغاث أحلام كما في"قلب البيوت".
الأحلام حسب الورداني هي قطعة من الليل نعود بها كل يوم "مجرد ارتعاشة نجم بعيد سرعان ما يغمره نور الصباح الباهر فيذوي"، لذلك وجد الكاتب أن الخطر الأكبر الذي يتهدد كتابة الحلم هو تحويله إلى نص! ".
فالحلم لديه "ليس سرداً طريفاً..فهو جرح يندمل، وكتابة الحلم بعد الاستيقاظ هي ولادته الثانية فهو يمر بولادتين، الأولى خلال النوم والأخرى عند الاستيقاظ".
هيثم الورداني، صاحب "كتاب النوم"، يعيش حاليا بين القاهرة وبرلين، له نصوص متفرقة في عدد من المجلات والدوريات الثقافية، وصدرت له مجموعة قصصية مشتركة "خيوط على دوائر – شرقيات 1995" والأخرى منفردة "جماعة الأدب الناقص – ميريت 2003"، و"حلم يقظة"مجموعة قصصية عن دار ميريت 2011، وآخر أعماله "كيف تختفي". كما قام بإنجاز بعض الترجمات عن الألمانية مثل " فالتر بنيامين، فولفجانج هيرمان"، وصدرت ترجمات لبعض أعماله.