«نيويورك – فلوريدا».. حين تكتب الصحافة روايتها الخاصة

ليست هذه رواية عن الترحال، وليست يوميات مراسل في بلاد العم سام. «نيويورك – فلوريدا» هو كتاب يحاول أن يقتنص الحقيقة الهاربة من عدسات هوليوود، ويعيد تشكيل ملامح أمريكا اليومية كما تُرى من عين مهاجر عربي، لا من نافذة طائرة أو شاشة سينما.
خمسة أعوام (2018 – 2022) من العيش في قلب الولايات المتحدة، قضاها الصحفي المصري محمد ماهر متنقلًا بين شوارع نيويورك وأزقة فلوريدا، بين البنتاجون ومركز ناسا، بين محال الممبار في بروكلين ومقابلات مع قادة القوات الفضائية الأمريكية. ليست رحلة سائح، بل مغامرة باحث عن التفاصيل الصغيرة في أمة تصرخ بتناقضاتها، وتخفي ما لا يُروى.
صدر الكتاب عن دار المحرر للنشر والتوزيع بالقاهرة في عام 2024، وظهر لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير/كانون الثاني الماضي، ثم انتقل بعدها بأيام قليلة إلى رفوف معرض أبوظبي الدولي للكتاب.
لكن ما بين غلافه الأمامي والخلفي، ليس مجرد سردٍ للأماكن بل بحثٌ في الوجوه والأصوات، محاولة لالتقاط لحظة إنسانية في قلب صخبٍ أمريكي لا يهدأ.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام. الأول يضعنا في قلب نيويورك، تلك المدينة التي لا تنام ولا تصمت، حيث يلتقط ماهر صورًا متعددة للمجتمع العربي في المهجر. يرصد المآذن المتناثرة بين ناطحات السحاب، والصلبان المتوارية خلف واجهات الزجاج، واليهودية التي تصلي في نفس الشارع الذي تُؤذَّن فيه الصلوات الخمس.
وفي مفارقة أدبية لافتة، يزور بيت إدجار آلان بو، الذي نَفَخَ الروح في أدب الرعب الأمريكي، ثم يتنقل بين دهاليز البنتاجون، حيث تُصنع السياسات التي تغيّر العالم، وربما تغيّر صورة العربي في هذا العالم.
في القسم الثاني، ينتقل بنا إلى فلوريدا، لا بوصفها ولاية سياحية، بل باعتبارها مسرحًا سياسيًا وروحيًا في آنٍ معًا. يعيد رسم مشاهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020 من هناك، ويغوص في طقوس تلك الولاية التي تجمع بين قداسات الصباح وعواصف السياسة، بين شواطئ ميامي ومراكز أبحاث الفضاء.
وهناك، يقف أمام بوابات وكالة ناسا، لا ليلتقط صورة، بل ليفتح حوارًا مع رموزها. نقرأ مقابلاته مع الدكتور فاروق الباز، وسالم المري، وتشارلز بولدن، والجنرال جون ريموند، وكل منهم يُضيف زاوية جديدة لفهم هذا الكون الأميركي المتشظي بين الأرض والفضاء.
الكتاب مدجّج بأكثر من 140 صورة فوتوغرافية من تصوير المؤلف نفسه، لا تأتي كزينة بصرية، بل كتوثيق صادق للتفاصيل: لافتة عربية في حي كوينز، أو لحن ديني يعزف داخل كنيسة بجانب مسجد. كل صورة تقول ما لا تستطيع الكلمات أن تبوح به.
في تصريحاته لـ"العين الإخبارية"، يكشف محمد ماهر أنه كان يحتفظ ببعض القصص في درج المكتب. لم تُنشر، أو نُشرت ناقصة تحت ضغط العناوين العريضة وضيق المساحة، لكنها بقيت حيّة تنتظر لحظة ولادة ثانية. حادث سيارة اضطره للبقاء في المنزل، منحه الفرصة ليعود إليها، ويعيد بناءها في مشروع لم يكن مجرد كتاب، بل استعادة لما فاته قوله.
قال ماهر: "القصص التي لم تصلح للصحافة اليومية قد تصلح أن تُروى في كتاب". وهو ما فعله. دمج بين ما نُشر وما لم يُنشر، وأعاد بناء الحكاية من جديد. حدّد جمهوره بوضوح: قراء العربية في مصر، والعالم العربي، وأيضًا المتحدثين بالعربية في الولايات المتحدة، ممن لا يبحثون عن أمريكا السياحية، بل عن أمريكا المجهولة.
اللغة في هذا العمل لا تتعامل مع أمريكا كقوة عظمى، بل كحكاية جارٍ لا يُحسن الحديث عن نفسه. والأسلوب يتماهى بين السرد الأدبي والتحقيق الصحفي، حيث الوقائع تتقاطع مع التأملات، والحوارات تنفجر أحيانًا بأسئلة عابرة للقارات، عابرة للثقافات.
أمّا فكرته الأساسية، فهي ليست في تقديم “حقيقة أمريكا”، بل في كشف المسكوت عنه داخل التجربة الأمريكية، كما يراها شاب مصري يبحث عن “مصره” داخل نيويورك، وعن هويته وسط فلوريدا، عن ملامح ضائعة في المرآة الأمريكية. ليس الكتاب تأريخًا، ولا دعاية، بل محاولة لفهم التعددية الأمريكية خارج الكليشيهات، من خلال سرد لا ينسى أن عين الصحفي قادرة على أن تكون عين الروائي أيضًا.
الدكتور عبد المنعم سعيد، المفكر المصري المعروف، يصف الكتاب بأنه “تجربة نادرة” في الكتابة الصحفية الحديثة، تُعيد إلى الذاكرة روح أنيس منصور وهو يكتب عن العالم بعيون مصرية. وجد فيه ما يتجاوز أدب الرحلات، فهو ليس استعراضًا لغرائب الأرض، بل استقصاء عميق في قلب ما يُفترض أنه معلوم.
أما فاروق الباز، العالم المصري المخضرم، آمن بأن هذا الكتاب لا يجب أن يظل مجرد مقالات صحفية متناثرة، بل مشروع يستحق أن يُقدَّم كأرشيف سردي للواقع الأمريكي. فكتب تقديمًا خاصًا لقسم "حوارات الفضاء"، مقترحًا عنوانه، ومضيفًا إليه روحه العلمية التي تعرف أن الحقيقة لا تكتمل إلا إذا اقتربنا منها.
وعلى منصة “أبجد”، بلغ تقييم الكتاب 4.6 من 5. كتب الصحفي ياسر خليل: "الكتاب ممتع، مزيج نادر بين أدب الرحلة والكتابة الصحفية الميدانية". وفي مراجعة باللغة الإنجليزية على موقع Egyptian Streets، كتبت نادين تاغ أن الكتاب يجبر القارئ على أن يرى أمريكا كما لو كان يرتدي نظارة واقع افتراضي، لا يسافر فقط بل يعيش التفاصيل: يراقب انتخابات، يزور مساجد، يصغي لأحاديث داخل ناسا، ويمشي في شوارع نيويورك كما لو كانت شارع شبرا.كتاب ليس دعوة للسفر، بل للانتباه. لا يحمل إجابات، بل يطرح أسئلة عن الهوية، والانتماء، والفهم الحقيقي لما نظنه "الآخر". وفي زمن امتلأت فيه الكتب بالصور المنقولة، يأتي هذا العمل محمولًا بكاميرا مؤلفه وقلمه، ليضع القارئ وجهًا لوجه مع أمريكا الحقيقية: أمريكا اليومية، المنهكة، المتنوعة، المتناقضة... التي لا تُروى إلا كما رواها هو. فهناك دائمًا قصص لم تُكتب بعد.
aXA6IDMuMTQ3LjguNjcg
جزيرة ام اند امز