كتاب "صنايعية مصر".. ألبوم إنساني كبير لمصر
في كتابه "صنايعية مصر"، قدم الكاتب الصحفي والسينارست المصري عمر طاهر، بنضج كبير، ألبوما إنسانيا كبيرا لمصر.
وجيه أباظة.. الضيف أحمد.. تومي خريستو مؤسس مصنع شوكولاتة "كورونا".. المهندس صدقي سليمان.. بديع خيري.. الشيخ محمد رفعت.. أنيس عبيد.. أبلة نظيرة.. اللواء أحمد رشدي.. كلوت بك.. وغيرها من الأسماء التي عند قراءتها متسلسلة في فهرس كتاب، لا يمكنك التفكير في قواسم مشتركة بينها، وهذا هو أول إنجاز لهذا الكتاب، فهو -منذ غلافه- لا يعد القارئ بقواسم مشتركة بين قصص الشخصيات الواردة فيه إلا من طريق واحد، وهو تفوق كل منهم في "صنعته"، فالكتاب هنا -وحده- هو الرابط.
في كتابه قبل الأخير "صنايعية مصر"، قدم الكاتب الصحفي والسينارست المصري عمر طاهر، بنضج كبير، ألبوما إنسانيا كبيرا لمصر، يربط فيه بين لقطات عدة تحسبها للوهلة الأولى متباعدة تماما، يربط بينها برباط رهيف وهو رباط التفوق في "الصنعة"، واختيار مصطلح "الصنعة" كان اختيارا ذكيا إلى حد كبير، فالصنعة مصطلح فصيح نجده بكثرة في كتب التراث، فكان يقال "صنعة الكيمياء" أو "صنعة الأدب" أو "صنعة الفلك" ... إلخ، وكذلك فإن الجمع الذي استخدمه في عنوان الكتاب (صنايعية) هو من العامية المصرية، وهذا ابتداء يوضح منهجه في هذا الكتاب، وهو تقديم جهد بحثي حقيقي في طرح يبدو للقارئ سهلا وممتعا. فجاء الكتاب حاملا وجبة معرفية هامة وشهية في آن واحد، ولعلنا في هذا المقال نشير إلى بعض الملامح الهامة في الكتاب.
المتن والهامش
استخدم عمر طاهر في كتابه أداة (الهامش) -والذي كان جزءا من المتن في أغلب الأحيان- بحرفية بالغة، مرة ليؤكد به معنى هاما، كما هو الحال في حديثه "شوكولاتة كورونا"، وفي الهامش حديثه عن "شاي الشيخ الشريب"، وكأنه يؤكد على (نجومية) الشوكولاتة، وارتباطها بأحوال الشغف والتعلق، وارتباط (الشاي) بمزاج بسطاء (الهامش) من المصريين، وإمعانا في ترسيخ المعنى، فقد وثق الكتاب أن الصورة التي كانت تحملها عبوة شاي (الشيخ الشريب) هي لـ"عرفة"، وهو ليس صاحب المصنع، بل السائق الخاص لـ "علوي الجزار" صاحب المصنع، ورئيس نادي الزمالك في هذا الوقت.
وفي موقع آخر أثناء حديثة عن أندريا رايدر (صنايعي الموسيقى التصويرية)، نجده في الهامش يتحدث عن قصة انتشرت عن إسلامه بسبب لقاءاته المتكررة مع الشيخ إبراهيم محمد أبو خليل، ثم يثبت عدم صحة هذه القصة، من خلال خبرين قام بتوثيقهما يثبتان أنه تمت الصلاة عليه في الكنيسة، ومجيء هذا التوثيق في (الهامش) له دلالة عميقة على عدم اعتناء الشعب المصري بدين الإنسان في هذا الزمن، في ظل وجود منظومة من القيم الأخلاقية كانت تحكم علاقات الناس، بغض النظر عن ديانة الشخص.
وفي نفس السياق، وأثناء التقاطه الدقيق لمشاهد عدة في حياة الشاعر والسيناريست بديع خيري، نجد عمر يعرض لقضية التباس ديانته على معظم معارفه ظنا منهم بأنه مسيحي بسبب اسمه "بديع خيري"، فيروي مواقف طريفة عن عدم توقفه عن التبرع للجمعيات المسيحية التي طلبت منه ذلك، وفي ذلك يروي موقفا للشيخ محمد رفعت أنه أبلغ نجيب الريحاني أن بديع خيري مسلم، بسؤال نجيب له عن ذلك، كانت الإجابة البسيطة الموحية "لم تسألني من قبل عن ذلك حتى أخبرك".
وفي مرة أخرى يؤدي الهامش وظيفة مساواة المتن، ففي حديثه عن الشيخ مصطفى إسماعيل، يتحدث في الهامش منه عن الشيخ محمد رفعت باستفاضة لا تقل عن استفاضة المتن، وكأنه من غير المتصور أن يدخل إلى دولة المقرئين، حتى وإن لم يكن هو المقصود بالكتابة ابتداء، وكأنه يعوض غياب الشيخ رفعت عن المتن لصالح قامة أخرى في عالم التلاوة، خاصة أن الشيخ رفعت كان له شأن في تقديم الشيخ مصطفى إسماعيل، لذا فإن هذا الهامش هو الوحيد تقريبا الذي تساوي مساحته مساحة المتن الأصلي، وكأنه لا حديث عن التلاوة دون المرور بالشيخ محمد رفعت، وإن تم ذلك في الهامش فلا يجب أن تقل مساحة هذا الهامش عن مساحة المتن المرصود في الكتاب بأي حال.
وفي هامش سرده لقصة "صدقي سليمان" (صنايعي السد العالي) يشير إلى أنه حصل على حوار نادر في إحدى المجلات، كان قد أجراه صحفي، مع المهندس صدقي سليمان في موقع السد العالي، وقد قام عمر طاهر بتصوير هذا الحوار بكاميرا موبايل، وأرسله إلى ابنة الصحفي الراحل، وكانت وقتها على باب غرفة العمليات، واعتبرتها رسالة سلام وطمأنينة من روح والدها.. لكن عمر يتساءل عن سبب عدم اطلاعه على الحوار رغم أن المجلة أمامه مذ شهور، ليضفي على القصة بعدا غامضا، يتعلق برسائل خفية تحملها بعض تصرفاتنا لا إراديا.
إشارات
إذ امتلأ الكتاب بالإشارات الذكية التي تؤكد أن الكتاب يستحق قراءة أخرى، حيث يحمل إشارات ضمنية من خلال الصور والغلاف والنص المكتوب، ومن تلك العبارات الذكية التي جاءت بين السطور، والتي يصعب حصرها هنا.
فإذا بدأنا بغلاف الكتاب فإن لنا أن نتساءل فور انتهائنا من قراءة الكتاب، عن صاحب صورة التمثال الفرعوني، والذي تعمد مصمم الغلاف إبرازه بشكل أكبر من بقية أصحاب الصور الواردة قصصهم في الكتاب، ليثير سؤالا بديهيا بداخلك: من هذا؟ وأين قصته من الكتاب، لتجد الإجابة في الصفحة التي غالبا لا ينتبه إليها القارئ، وهي صفحة (الترويسة) التي تحتوي بيانات الكتاب ودار نشره، إذ نقرأ في نهايتها بخط صغير "رأس التمثال الفرعوني على الغلاف هي لـ"جم إيونو" مهندس الهرم الأكبر(هرم خوفو) بالجيزة".
وهذه الإشارة يمكن أن يكون لها أكثر من دلالة، فهي إما تشير إلى رغبة الكاتب في الكتابة عنه باعتباره "صنايعي الهرم الأكبر"، لكنه لم يتمكن من ذلك لقلة الوثائق التي يمكن أن تتوافر مقارنة ببقية الشخصيات، وإما تشير إلى التأسيس لوجود "الصنايعية" أصحاب العلامات الفارقة في هذا الوطن منذ قديم الزمن، ليثبت التفوق كواحد من "جينات الشخصية المصرية" حال حصولها على الفرصة المناسبة.
أما على مستوى النص، فقد حوى الكتاب لقطات مكثفة، جاءت في لغة شعرية، ففي مجال حديثه مثلا عن حلم الممثل الراحل الضيف أحمد "صنايعي الكوميديا" بتقديم (كوميديا فكرية) يوما ما، فيقول على وصف أحد الكتاب للضيف أحمد بأنه مثل عازف كمان موهوب لا يجد رواجا، فيقرر أن يكون لاعب سيرك، ليلفت أنظار الجمهور وفي اللحظة التي يكون فيها في الهواء، يخرج من سترته الكمان ليقدم اللحن الذي يحبه، فيعقب عمر طاهر: "... رحيله في الثانية والثلاثين كان في منتصف الطريق تماما ما بين الأرض ولحظة إخراج الكمان المخبأ في سترته".
أو إشارته إلى أن العام الذي رحل فيه أنيس عبيد -من عرف المصريين بالعالم عبر ترجماته للأفلام العالمية-، هو العام الذي عرف فيه العالم مصر من خلال حصول نجيب محفوظ. وكأن هذا نتيجة طبيعية لذاك.. يفعل ذلك عمر طاهر في مناطق عدة من الكتاب إشاريا، دون أن يصرح بذلك أو يشرحه تفصيلا، وإنما يكتفي بالإشارة فقط.
وكذلك احتوى الكتاب عديدا من المفارقات الشعرية بامتياز، منها تحول مصنع الشبراويشي (للعطور) بعد إهماله في وقت لاحق إلى (مقلب قمامة).. أو أن ناعوم شبيب المهندس المصري (اليهودي) "صنايعي برج القاهرة"، اخترع أسهل طريقة ممكنة لبناء (القباب الإسلامية)، وقام بتطبيق اختراعه لأول مرة في بناء (كنيسة) سانت تريز ببورسعيد.. أو أن الغزالة التي داعبت أطفال مصر لعقود طويلة على غلاف شوكولاتة "كورونا" كانت لغزالة ماتت أثناء عبورها ملعب كرة القدم الذي بناه الخواجة "تومي خريستو" لعماله، وذلك لاعتقاده أن من يطبخ الشوكولاتة- وهي مصدر بهجة للناس- لابد أن يكون سعيدا، لذا وفر لهم ملعبا لكرة القدم"... وغيرها من المفارقات التي ترصد ظلالا أخرى لهؤلاء الشخوص، بأسلوب فني مرهف.
والناتج من هذه القراءة السريعة أن عمر طاهر في "صنايعية مصر"، بنضج واضح، حاول أن يتجاوز ما أنجزه بالفعل في أعماله السابقة من كتابات ارتبطت في أغلبها بالتأريخ إنسانيا لجيله، على خلفيات اقتصادية واجتماعية وثقافية، من خلال المفردات التي أدركها هذا الجيل، بما شكلته هذه المفردات من علامات نوستالوجية، غالبا ما ارتبط بها معظم من قضوا فترات مراهقتهم وشبابهم في أواخر الثمانينيات وفترة التسعينيات كاملة.