المبدأ المتعارف عليه، وغير المكتوب، بين رؤساء الحكومات البريطانيين ونواب أحزابهم في البرلمان قائم على مقايضة.. وهي أن ولاء النواب للرؤساء مشروط بقدرة الرؤساء على الفوز بالانتخابات.
أي ضمان استمرار النواب في مقاعدهم البرلمانية لسنوات أخرى.
الولاء النوابي يتلاشى في الهواء فجأة، متى أحس النواب بأن رئيس حكومتهم فقد سحره وجاذبيته لدى الناخبين.
تلك المقايضة السياسية تبدو أكثر وضوحاً في سجلات تاريخ حزب المحافظين، لكن لا يعني ذلك أن كل رؤساء الحكومات المحافظين مروا بتلك المحنة.. على سبيل المثال، كل من مارجريت تاتشر، وديفيد كاميرون وتيريزا ماي، لم يتعرضوا لها.. لكنهم استثناء، والاستثناء، عادةً، لا يعوَّل عليه كثيراً.
في حزب العمال تبدو المقايضة أكثر مرونة. ففي انتخابات عام 2017 لم يتمكن الحزب من إنزال الهزيمة برئيسة الحكومة السيدة تيريزا ماي، رغم زيادة عدد مقاعدهم البرلمانية، وخسارة السيدة ماي أغلبيتها.. إلا أنها استمرت في الحكم، واستمر السيد جيريمي كوربين كذلك في زعامة حزب العمال.. ولو حدث الأمر في حزب المحافظين لربما اختلفت النهاية.
في الآونة الأخيرة، بدأت صورة رئيس الوزراء الحالي السيد بوريس جونسون تتعرض للاهتزاز نتيجة تسرعه في اتخاذ قرارات ثم الرجوع عنها، في وقت قصير، وبدأت وسائل الإعلام باختلافها تتعرض له بالنقد، وتنشر تقارير عن تململ النواب المحافظين، ونفاد صبرهم على الزعيم جونسون، الذي قادهم إلى فوز كبير في الانتخابات الأخيرة، لم يحققوه منذ الثمانينيات من القرن الماضي.
وبالتأكيد، هناك أسباب عديدة تقف وراء ذلك الهجوم الإعلامي على السيد جونسون، وهي ذات مصداقية.. لكن رئيس الحكومة السيد جونسون يقود حزباً وجد في السلطة منذ عام 2010، ومن عادة الأحزاب التي تطول إقامتها على رأس الهرم أن تُصاب بترهل يقود إلى تراخٍ في الانضباط الحزبي، يفضي عادةً إلى تصاعد ملحوظ في فساد ذمة السياسيين، وانتشار روائح الفساد.
مثال ذلك، ما حدث في سنوات حكم السيد جون ميجور، خليفة السيدة تاتشر.. فقد وصل إلى الحكم بعد 11 سنة متواصلة من حكم المحافظين.. وفي عهده عمت روائح الفساد كل المستويات.. وعاقب الناخبون المحافظين بقسوة في انتخابات عام 1997 التي جاءت بالسيد توني بلير وحزبه العمالي الجديد إلى الحكم، وأذاق المحافظين طعم مرارة هزيمة برلمانية تاريخية لا تُنسى كادت تقضي عليهم برلمانياً.
فساد ذمم البرلمانيين المالية رفع الستار عنه مؤخراً في قضية تورط نائب برلماني، سبق له تولي مناصب وزارية، في تقديم الاستشارات لشركتين، وتسخير مكتبه البرلماني وما يحظى به من تسهيلات لخدمتهما.
تلك القضية أدت إلى مسارعة الصحافيين إلى الكشف عن عشرات النواب المحافظين ممن يقدمون خدماتهم لشركات كبيرة لقاء مقابل مالي.
الضجة الإعلامية المثارة انعكست تأثيراتها سلبياً على نواب المقاعد الخلفية المحافظين.. وبدأنا نطالع في وسائل الإعلام تصريحات وتسريبات من تلك الدوائر تغمز من قناة السيد جونسون، وترى أن الأزمة كان من الممكن جداً تفاديها لو أن رئيس الحكومة استمع إلى آراء وزراء حكومته ونواب حزبه.
الأزمة من المحتمل أن تختفي في المدة القريبة القادمة من صفحات الجرائد، ومختلف وسائل الإعلام، وربما تركت جروحاً في كثير من النواب المحافظين، لأنها اضطرت البرلمان والحكومة إلى مراجعة لائحة المعايير السلوكية للنواب، وإمكانية منعهم من ممارسة وظائف أخرى تتعارض مع صفتهم البرلمانية.. لكنها، في رأي المعلقين، ليست مؤشراً على أفول نجم السيد جونسون، ولا على قرب نهاية المحافظين بخروجهم من الحكم.
السيد جونسون، كما يؤكد معلقون سياسيون، ورقة انتخابية رابحة.. فاز على التوالي بالاستفتاء على "بريكست"، وبزعامة الحزب، وفي الانتخابات العامة.. وله قاعدة شعبية كبيرة قائمة على مؤيدي "بريكست"، خصوصاً ممن كانوا يؤيدون حزب نايجل فراج "بريكست" سابقاً، حزب الإصلاح - Reform حالياً.
ويرون أن حزب المحافظين، بشكله الحالي، حزب جونسوني.. وهو -أي جونسون- ما يوحد أعضاءه، ويجعلهم يقبلون بالوجود معاً في قفة واحدة، لأنهم تشكيلة غير متجانسة تضم معاً نخبويين وشعبويين معادين للنخبة.. وهم من أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويناوئون المطالبين بالبقاء، وضد القوميين الانفصاليين في اسكتلندا، وجميعهم هدفهم البقاء في الحكم حتى نهاية هذا العقد، على الأقل، للانتهاء كلياً من قطع وشائج بريطانيا بالاتحاد الأوروبي.. ومن المحتمل جداً فوزهم في الانتخابات القادمة وما بعدها، وتسجيل رقم قياسي جديد لحزب المحافظين في الحكم، "الرقم القياسي السابق للحزب 18 عاماً".
الأسابيع والشهور القادمة من المحتمل أن تكون أشد قسوة على السيد جونسون وحكومته، لأسباب عديدة ومعروفة ناجمة عن تأثيرات فيروس "كورونا"، وهي التي ستضطر الحكومة لرفع الضرائب بشكل غير مسبوق، وتوقع قيام المصرف المركزي برفع نسبة الفائدة لمقاومة الزيادة في مؤشرات التضخم وزيادة أسعار السلع الضرورية.
المعلقون السياسيون اليمينيون لا يبدون انزعاجاً لما حدث.. وهم يرون أن السحر الجونسوني لم يفقد تأثيره الانتخابي بعد، خصوصاً عقب النجاح الذي تحقق في حملات التطعيم ضد الفيروس.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة