الحضارة لا تقاس فقط بتاريخ الأمم وقدم التراث الإنساني للمجتمعات، بل تُقاس بقدرتها على التطور ووضع الثقل الاقتصادي والسياسي.
هكذا تعلمنا من الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، أن هذه المعايير ركيزة أساسية تفرض قيمتها عالميا، لتصبح الدولة صانعة للأحداث ومتداخلة بشكل محوري في رسم المستقبل الذي يفرض السلام من منطلق القوة بكل مكوناتها.
ونحن الآن نتعلم من جديد من قائد استثنائي عابر للأيديولوجيات السياسية، وأقصد هنا تحديدا صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي يثبت لنا دوما مدى جاهزية دولة الإمارات وقدرتها المستدامة على صناعة التاريخ من جديد، وإعادة رسم خريطة العلاقات الدولية وضبط إيقاع المجتمع الدولي بما يخدم مصلحتها الوطنية ومصلحة البشرية جمعاء، وذلك من خلال سياسة الإمارات البراجماتية في نموذجها الأكثر توسطاً، والمرتكزة على العقلانية وإعادة استخدام أدواتها السياسية والاقتصادية والقوة الناعمة، فيما يخدم قضايا السلام المشتركة في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
ولعل الحديث يأخذنا نحو الجمهورية التركية، التي شهدت بنفسها على أن تعزيز الاقتصاد الوطني يقوم على إحلال السلام واحترام القيم المشتركة للشعوب، ودعم الاستقرار في المنطقة والعالم، باعتباره النموذج الأنضج للمعاملات الدولية، وأن استيعاب نموذج التسامح الإماراتي الذي تصدره حكومتنا الرشيدة إلى دول العالم كآلية عالمية مشتركة تطبقها الدول مجتمعة لا منفردة، هو البداية الحقيقية الأكثر قبولاً على المستوى الشعبي العالمي، قبل أن تكون على مستوى حكومات الدول، وهو المعالجة الرشيدة للإشكالات الاقتصادية لتركيا، وهو البديل الأكثر نجاحا للسياسات المحلية لتعزيز الاقتصاد الوطني لها.
من هنا تحول الموقف التركي للتقارب مع كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية، بالإضافة إلى دول أخرى كانت لسنوات عدة خصما لتركيا، بهدف الخروج من عنق الزجاجة، وإنهاء العزلة الدبلوماسية التي تعد أداة ضغط قاسية على الاقتصاد التركي والاستثمارات الأجنبية على أراضيها، وبصفة خاصة مع بدء أنقرة التخلي عن دعم واستضافة جماعات الإسلام السياسي.
وتأتي الدعوة الرسمية من فخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لزيارة الجمهورية التركية لتعكس بدورها إشارة واضحة تعبر صراحة عن إعادة توجيه بوصلة أنقرة إلى قبلة التسامح، الإمارات العربية المتحدة، وهو ما يمثل في حقيقته بوابة المرور الآمن وتصحيحا للمسار التركي إلى الدول العربية، وذلك من خلال نقطتين أساسيتين:
الأولى، وهي مراجعة سياساتها الخارجية تجاه الدول العربية، وتحديدا من خلال دولة الإمارات، التي تعد أكبر سوق تجارية لها في المنطقة، بعد سنوات من التوتر في العلاقات بين البلدين، مع تأكيد الاستفادة من المنهج الإماراتي في التسامح واحترام الآخر، ونقصد هنا تحديداً سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، وإحلال الأمن والسلم الدوليين.
أما النقطة الثانية، فتمثل الاشتراك في بحث القضايا المشتركة وبدء تعزيز التعاون التجاري والاستثماري والاقتصادي، كبداية لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، ثم بين الدول العربية ككل من ناحية، وتركيا من ناحية أخرى، بما يعزز تحقيق التنمية لشعوب المنطقة في مناخ يسوده الاستقرار والوئام والتآخي.
ولعل الاستقبال الأسطوري من الجمهورية التركية، ممثلة في رئيسها وحكومته، لقائدنا الاستثنائي والوفد المرافق له، لها دلالتها الكافية على مدى قدرة سيدي محمد بن زايد، رجل السلام، الذي تمزج شخصيته بين الهيبة والحكمة والتقدير غير المحدود من جميع الشخصيات الدولية، باعتباره نموذجا مؤثرا على النطاق العالمي، له دور كبير في إعادة وحدة الصف وإحلال السلم والأمن الدوليين، على تحقيق التنمية المشتركة التي تخدم شعوب المنطقة والعالم، وهو ما يؤكد أن دولة الإمارات تؤمن بأهمية أن تنعم المنطقة بالأمن والاستقرار.
وتعلن الإمارات عقب الزيارة الاستثنائية، ولأول مرة، تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاسثمارات في تركيا، وتعزيزا لاقتصادها، بحيث من المقرر أن تكون ركيزة ذلك الصندوق على الاستثمارات الاستراتيجية، وعلى رأسها القطاعات اللوجستية، ومنها الصحة والغذاء والطاقة.
بكل الفخر تتمسك دولة الإمارات بحقها في أن تظل قوة إقليمية، وتظل سياساتها الخارجية ثابتة، قوامها مصلحتها الوطنية مع تغيير أدواتها وفقاً لمعطيات المرحلة، والتغير المتباين في الأحداث العالمية، ولتفرض السلام من منطلق القوة، وتعي أهميتها كقاعدة أساسية لتنمية الشعوب، ومن هنا نرحب بالشقيقة تركيا، مرحبا أو "مرهبا" تركيا، إلى رحاب الوطن العربي برعاية إماراتية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة