على عتبات انتخابات رئاسية فرنسية جديدة، وفي الوسط من ضجيج يصم الآذان من جرّاء قلاقل واضطرابات يعيشها الفرنسيون..
بعضها خلّفتْه جائحة كوفيد-19 المستجد، الذي يضرب فرنسا بشراسة مخيفة هذه الأيام، والبعض الآخر بسبب الأوضاع الاقتصادية وصراعات فرنسا مع أطراف غربية، في مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة بعد أزمة الغواصات الأسترالية، عطفًا على إشكالية الطاقة التي تعانيها أوروبا، والمخاوف من تلاعب القيصر بوتين بالجميع، يبدو كأنّ هناك مَن يراهن على تلك الأزمات ليشعل فتيلاً من العنصرية، بهدف تحويل الأنظار إلى مسارٍ آخر لأزمات بلاد الغال، وإلقاء جزء كبير من تبعات الإشكالية على الإسلام والمسلمين في الداخل الفرنسي.
يحتاج الحديث عن قضية الإسلاموفوبيا في الداخل الفرنسي إلى قراءات مطوَّلة وليس إلى بضعة سطور، ذلك أنها مشكلة أيديولوجية عميقة الجذور يتم استدعاؤها دومًا في أوقات الأزمات.
وقد تابع العالم بعض الصحف الفرنسية، التي صدرت صباح الثاني عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، وغداة الحادث الإرهابي الكبير الذي ضرب واشنطن ونيويورك، تحمل عناوين من نوعية "استيقظْ يا شارل مارتل"، في إشارة إلى البطل الفرنسي، الذي قاد موقعة "بواتييه"، وأوقف تقدُّم القوّات العربية الماضية قدمًا في فتح فرنسا، الأمر الذي دلَّلَ على أنّ هناك شيئًا ما في الذاكرة الجمعيّة لم يُنسَ بعدُ ويتمّ استحضاره كرمزٍ ومثال.
على أنّ فرنسا في واقع الأمر، ومن خلال عصور التنوير، كانت قد تخلَّصتْ من إرث الخلط بين السياسة وأعمالها وبين الأديان ورؤاها، في فصل شديد الجفاف والقسوة بين ما هو ديني وما هو سياسي، وباتت تُعرَف بعلمانيّتها المفرطة.
غير أنّ هناك أوضاعًا وتغيّرات وطباعات تبدّلت في العقود الأخيرة، لا سيّما بعد أن بدأ البعد الديموغرافي لمسلمي أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، ينمو ويصعد.
عرف الفرنسيون بدورهم ما أسموه "إشكالية أسلمة أوروبا"، وكان لهم منها نصيبٌ كبير، لا سيّما من قِبَل كتاب اليمين المتشدّد إلى حدّ المتطرف.
وقد رأينا على سبيل المثال لا الحصر، أشخاصًا مثل الكاتب إريك زامور، الذي لا ينفكّ مؤخّرًا يروج لإبعاد التهويل من شأن الحضور الإسلامي في فرنسا، مستدعيًا كل ما له صلة بأشباح التطرف والتشدّد، لا سيّما بعد حوادث إرهابية كارثية عدة تعرّضت لها فرنسا في العقد الماضي، وفي المقدمة منها العمل الإرهابي الذي عرفه مسرح الباتاكلان في وسط العاصمة الفرنسية، باريس.
يراهن "زامور"، ومن قبلُ ماريان لوبان، وغيرهما على أن العداء الواضح والظاهر لكلّ مَن هو وما هو إسلاميٌّ في الداخل الفرنسي أمرٌ كفيل بتغيير مجريات الانتخابات وسحب البساط من تحت أرجل المرشّحين الفرنسيّين التقليديين، الذين يحاولون الحفاظ على النظرة المعتدلة للأمور، حتّى وإن علا صوت بعض جماعات التطرّف أو ارتفعتْ إشكالية التعايش والاندماج داخل الجمهورية الفرنسية.
غير أنّه، ومن أسف، تبقى هناك إشكالية حقيقية تتمثّل في تصاعد المخاوف الجديدة من الإسلام في فرنسا، ولعل من أفضل الأقلام التي تناولت الأزمة بموضوعية وعقلانية، الكاتب الفرنسي "فنسان جيسير"، في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، حيث يرى أنّ الإسلام يعاني كثيرًا صورا نمطية سيئة لدى الآخرين، بل ولدى بعض أبنائه.
والشاهد أنّه ليست أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي التي كانت المنطلَق الأوّل في إحياء هذه النعرة، فالإسلام في أوروبا يتوهّمه البعض خطرًا كبيرًا، وهنا فإنّه لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل آراء كثير من المستشرقين والفلاسفة الغربيين الذين لم ينظروا للإسلام نظرة إنصاف.
جزء آخر من أسباب أزمة الإسلاموفوبيا الفرنسية المعاصرة يمكن أن نردّه إلى سيطرة كثير من المثقّفين المناهضين للإسلام على وسائل الإعلام، الأمر الذي أوجد نوعًا من المخاوف المبطَّنة من الدين الإسلاميّ يقدّمه هؤلاء على أنّه خطر قائم وقادم يجب الوقوف أمامه وعدم إتاحة الفرصة له للظهور على الساحة.
يعنّ للمرء أن يتساءل: هل بدأت تلك الأصوات ذات الطبيعة الكارهة والمعادية للإسلام والمسلمين في فرنسا في التأثير على كلّ الفرنسيّين؟ أم أنّ هناك بعدُ عقولاً وقلوبًا لم تخضع لسلطان الكراهية وسيطرة البُغض أو شيطنة الآخر؟
بالقطع لا تزال هناك ركب لم تجثُ لبعل الخصام والعداوات المجذّرة على أسس عقدية، وهو أسوأ أشكال العداوات، ذلك أنّ القضايا الأيديولوجية نسبية بطبيعتها، ولهذا فهي تقبل فلسفة القسمة، أما القضايا الدوجمائية ذات المواصفات الفقهية، فهي غير قابلة للنقاش.
وقضية الإسلاموفوبيا هي قضية أيديولوجية، وإنْ حاول البعض تصنيفها ضمن إطار العقائد، لكنّه تصنيف منحول في كل الأحوال.
من بين الأصوات، التي تعطي الأمل في فرنسا، يأتي صوت الكاتب الفرنسي "أنطوان لاريس"، مؤلّف كتاب "لن أمنحكم كراهيتي"، والذي يروي فيه تجربته الأليمة بعد فقدانه زوجته الصحافية في حادث مسرح الباتاكلان الإجرامي، فعلى الرغم من الألم الذي أحاطه، فإنه انتصر داخليًّا على إحساس الكراهية.
وسطور الكتاب تبدو رسالةً إلى ابنته الصغيرة، التي لم ترَ ولن ترى، مع الأسف، والدتها ثانيةً، رسالةً تدفعها في طريق مغاير لأفكار الانتقام ودروب الكراهية.
ما الذي تحتاج إليه أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، في هذه الأوقات؟
المقطوع به أنّ العالم برُمّته في حاجة إلى إزالة جدران الخوف المتبادل، تلك التي وَلَّدتْ عداوات وكانت وراء قيام حروب عالمية خَبَرَ الأوروبيون كارثِيّتها، وراح ضحِيّتها الملايين من البشر.
في هذا السياق، يمكن للمرء أن يتخيّل، ولو نظريًّا، استبدال فكر الأخوّة الإنسانيّة بأفكار العداوات المؤدلَجة، وكيف يمكن للعالم -وليس فرنسا فقط- أن يتغَيّر تغيّرًا جذريًّا، هذا الفكر الذي صدَّرته الإمارات للعالم في السنوات الثلاث المنصرمة، منذ توقيع تلك الوثيقة التاريخيّة على الأراضي الإماراتية في شهر فبراير/شباط من عام 2019.
يحتاج عالمنا إلى التحرّك من أجل عمل جماعي نحو صياغة حديثة للسلام المجتمعي القائم على قبول الآخر، والقيام بجرأة بعمليات إزاحة لكل العقبات الكؤود، التي تعيق التلاقي، كما يحتاج المشهد عينُه إلى أن يُعلي المعتدلون أصواتهم التي تكمَّمتْ طويلاً ويطرحون رؤاهم التعايشيّة ويُسمِعون أصواتهم العقلانية ويخوضون معركة التنوير كما تقتضيها الأزمنة المعاصرة، والتي جاءت على خلاف ما كان المرء يتوقّع من أزمنة العولمة، تلك التي فتحت الأبواب واسعةً في الفضاءات السيبرانية، في حين أغلقت الأفكار والعقول عند البعض الآخر تجاه أقلّيات بعينها دينية أو عرقية.
من هنا تتبدّى كذلك أهمية الدعوات للحوار البَنّاء والخلّاق بين الأمم والثقافات والأديان، فالحوار وحده قادر على إعمال العقل في النقل، بل ومواجهة التطرّف والتزَيّد بالردود المنطقية والأدلّة العقلية، ومن أجل إتاحة مجال أكثر أنسنة للأجيال القادمة، والابتعاد عن الردّة الحضارية، التي تكاد البشرية تتشرنق فيها من جديد.
أحلى الكلام: ما أجمل أن يجتمع الإخوة معًا تحت سقف واحد!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة