"بريكست".. الاختبار الأصعب لـ"ماي"
ماي قد تنقض على أي شيء أمامها لإنقاذ حياتها "السياسية" خاصة وأنه لم يبق على موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوى أسبوع.
ترمي رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي النرد على طريقة "أنا وحظي".
فهي بصدد إعادة خطتها للبريكست للتصويت أمام البرلمان الأسبوع المقبل للمرة الثالثة، بعدما رفضها البرلمان مرتين من قبل بفارق 230 صوتاً في المرة الأولى، ثم 149 صوتاً في المرة الثانية.
لم يتغير أي شيء في الاتفاقية كي تأمل ماي في تصويت لصالح خطتها هذه المرة.
ما تغير هو شيئان: الأول أن ماي نكصت عن وعد قطعته أمام البرلمان نحو 108 مرات بالخروج من الاتحاد الأوروبي يوم 29 مارس/آذار الجاري، بعدما قدمت طلباً رسمياً للاتحاد الأوروبي لتأجيل الخروج حتى 30 يونيو/حزيران المقبل، هذا النكوص قلب عليها أنصار "بريكست خشن"، الذين يريدون الآن الإطاحة بها من منصبها خلال الأسابيع الثمانية المقبلة.
التغيير الثاني، أن ماي شنت على البرلمان البريطاني هجوماً عنيفاً في كلمة للبريطانيين مساء الأربعاء الماضي، ألقت فيها كل مسؤولية فشل بريكست على النواب ونزعت عن نفسها أي مسؤولية.
التحريض على البرلمان
كلمة ماي قوبلت بحالة من الصدمة وعدم التصديق، فتحريض الشارع على البرلمان "جريمة" غير مسبوقة في أقدم ديمقراطية برلمانية في العالم.
نواب كان من الممكن أن يصوتوا لصالح خطتها الأسبوع المقبل باتوا مترددين اليوم، ليز ناندي، النائبة في حزب العمال المعارض التي صوتت للبريكست علقت تعقيباً على كلمة ماي النارية ضد النواب ولهجتها العدائية التحريضية: "بيان ماي مشين وخطير ومتهور... وسيكلفها حلفاء".
آنا سوبري، النائبة التي استقالت قبل أسابيع من حزب المحافظين الحاكم، قالت إن "تقصير ماي في أداء الواجب هو الأسوأ لأي رئيس وزراء بريطاني في التاريخ".
دومنيك جريف، النائب العام السابق والعضو البارز في حزب المحافظين، قال: "لم أشعر في حياتي بالعار من كوني عضواً في حزب المحافظين أكثر من اليوم".
البعض يقول إن ماي قد تنقض على أي شيء أمامها لإنقاذ حياتها "السياسية".
خاصة أنه لم يبق على موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوى أسبوع وليس لدى ماي وقت للإقناع والمفاوضات، ولم يعد لديها سوى التهديد والوعيد والتخويف من أن بريطانيا على وشك الخروج من دون اتفاق ما لم يدعم البرلمان خطتها.
تلاشي زعامة ماي
بينما قد تتزايد نسبياً حظوظ خطة ماي في تجاوز عقبة البرلمان (بسبب عدم وجود بدائل وقلة الوقت)، فإن زعامة ماي نفسها "تتلاشي" بشكل متسارع. وأغلب الظن أن بعث الحياة في خطتها للبريكست سيترافق مع لفظ ماي شخصياً أنفاسها السياسية الأخيرة، وذلك بعدما خسرت دعم الجناح المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي والجناح المناوئ للاتحاد الأوروبي بسبب الطريقة الفوضوية التي أدارت بها ملف بريكست، والتي ساهمت في زيادة الاستقطاب داخل الحزب والبرلمان والبلد.
ففي تصويت الأسبوع الماضي حول استبعاد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "من دون صفقة" صوت عدد من وزراء الحكومة لصالح القرار، وعلى رأسهم وزير العدل ديفيد جوك، ووزيرة العمل والمعاشات أمبر راد، ووزير الأعمال والاستثمارات جريج كلارك.
لكن وفي التصويت على تأجيل البريكست لما بعد 29 مارس/آذار الجاري، صوت ضد القرار عدد كبير آخر من الوزراء، على رأسهم وزير بريكست شخصيا ستيفن باركلي، ووزير التجارة الدولية ليام فوكس، ووزير الدفاع جافن ويليمسون، ووزير المواصلات كريس جريلينج، ووزيرة التعاون الدولي بيني موردنت، وزعيمة حزب المحافظين في مجلس العموم أندريا لادسوم.
وهذا يعني أن الحكومة منقسمة أفقياً وعرضياً إزاء بريكست، فجناحي الحكومة صوتا بشكل مختلف تماماً في مسألتي تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد، واستبعاد سيناريو الخروج من دون اتفاق.
وإذا كانت مجريات هذا الأسبوع أظهرت أن ماي عاجزة في توحيد حكومتها خلفها، ناهيك عن حزبها والبرلمان والبلد، فإن أيامها السياسية باتت معدودة.
فالفوضى العارمة الحالية، التي أضرت بصورة ومكانة بريطانيا الدولية، تتعلق باتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فيما الشق الأصعب من المفاوضات الخاص بالعلاقات المستقبلية بين لندن وبروكسل لم يبدأ بعد.
وحكماً على الطريقة التي أدارت بها ماي مفاوضات الانسحاب، فإن الثقة فيها قليلة جدا لإدارة مفاوضات العلاقات المستقبلية التي قد تستغرق ما بين عامين إلى خمسة أعوام.
من عدم الأنصاف إلقاء مسؤولية حالة الغموض والفشل السياسي الحالية على تيريزا ماي وحدها، فحزب المحافظين منذ دخلت بريطانيا "المجموعة الأوروبية" في السبعينيات وهو منقسم على نفسه إزاء عضوية المجموعة الأوروبية التي أصبحت لاحقاً "الاتحاد الأوروبي"، وهو مشروع انتقل خلال العقود الماضية من كونه "سوق مشتركة لتبادل السلع والخدمات" إلى أقرب لـ"الولايات المتحدة الأوروبية" بسياسات خارجية منسقة، وربما قريباً يكون جيشا مشتركا.
وعلى غرار حزب المحافظين، فإن حزب العمال أيضاً يعاني انقسامات إزاء الاتحاد الأوروبي، ففيما تدعم قواعده الشعبية البقاء في الاتحاد، فإن قيادة الحزب على رأسها زعيمه جيرمي كوربن والمقربون منه في حكومة الظل لطالما كانت لديهم اختلافات أيديولوجية عن الاتحاد الأوروبي بوصفه "مشروع نيو- ليبرالي" يفرض سياسات تقشف واستقطاعات صارمة تتعارض مع سياسات أحزاب يسار الوسط الأوروبي من ضمنها حزب العمال.
إذن، لم تصنع ماي الاستقطاب حول السؤال الأوروبي، فهو موجود وحاضر منذ عقود، لكن الطريقة التي أدارت بها ملف البريكست ساهمت في تعزيز الاستقطاب السياسي في بريطانيا، وإدخال النقاش في البرلمان حول خطة توافقية لطريق مسدود.
فقد أدارت ماي ملف بريكست بوصفه "ملف حزبي -شخصي"، أي متعلق بحزب المحافظين الحاكم وبإرثها السياسي الشخصي، ومنذ الأشهر الأولى وضعت خطوطا حمراء تتصادم مع ما قد يقبله حزب العمال المعارض، ومن بين تلك الخطوط الحمراء خروج بريطانيا من اتحاد التعريفة الجمركية والسوق الأوروبية الموحدة من أجل وقف حرية انتقال العمالة.
ثم قامت ماي بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة للخروج من الاتحاد الأوروبي، بدون أن تختبر ماذا تريد الأغلبية البرلمانية، وبعد ذلك انحازت للجناح المتشدد في حزبها المناوئ للاتحاد الأوروبي، ووضعت خطوطها الحمراء، ثم حددت بشكل "تعسفي" موعد خروج بريطانيا من الاتحاد، 29 مارس/ آذار 2019، وذلك قبل أن تبدأ مفاوضات حقيقة مع الاتحاد الأوروبي.
هذه الأخطاء الاستراتيجية في إدارة ملف بريكست دعت المستشار السابق في الحكومة البريطانية وعضو حزب المحافظين جورج فريمان إلى دعوة ماي هذا الأسبوع للاستقالة.
إذن بعدما كسرت ماي وعديها الكبيرين منذ 2016. الأول: أن "لا اتفاق... أفضل من اتفاق سيئ" و"بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي يوم 29 مارس" (شعار رددته أكثر من مئة مرة) ستطرح ماي لـ"لمرة الثالثة" خطتها للبريكست للتصويت أمام البرلمان الأسبوع المقبل.
وحظوظ تمرير خطتها هذه المرة أفضل نسبياً، ليس لأن ماي أدخلت أي تعديلات جديدة أو حسنت الخطة "السيئة" باعتراف مؤيدي الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومؤيدي البقاء، بل لأن ماي "حاصرت" بريطانيا بخيارين كلاهما سيئ؛ إما خطتها كما هي وإما الخروج من دون اتفاق. وهذه مقامرة لا يريد الكثير من نواب حزب المحافظين من أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي الإقدام عليها.
لكن حتى في حالة تمرير خطة ماي للبريكست، فإن التساؤلات حول شرعية تلك الخطة ستتواصل. أولاً لأنها على الأغلب حتى إذا ما مررت من البرلمان ستمر بأغلبية ضئيلة جداً، و"تحت تهديد السلاح" بوصف الكثير من النواب بينهم سيمون كلارك النائب في حزب المحافظين.
وبينما تردد ماي أن تمرير الاتفاقية هو "التزام ديمقراطي" لتنفيذ رغبة الشارع الذي صوت للبريكست في يونيو 2016، فإن الحقيقة أن الديمقراطية البريطانية في مأزق.
لأنه بينما تصر على إعادة طرح خطتها للتصويت المرة تلو الأخرى، برغم رفضها من البرلمان (في نظام برلماني يمثل فيه النواب الشعب)، ترفض ماي إجراء استفتاء شعبي على خطتها للبريكست، علماً أن عريضة أمام البرلمان لإلغاء المادة 50 ووقف البريكست وقع عليها خلال أقل من 24 ساعة أكثر من مليون بريطاني، وهذا شيء غير مسبوق، ويدل على أن السؤال الديمقراطي في بريطانيا أكبر من مجرد تنفيذ نتائج استفتاء 2016 بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
ففي نهاية المطاف عندما صوت البريطانيون في استفتاء بريكست كان السؤال عبارة عن سطر واحد: وهو هل تريد البقاء في الاتحاد الأوروبي... نعم أم لا؟.
اليوم التداعيات الحقيقة للخروج وشروطه باتت واضحة في اتفاقية البريكست (نحو 600 صفحة) والإعلان السياسي المشترك (نحو 20 صفحة) و3 وثائق أخرى مرفقة.
وبكل المعايير الديمقراطية، حتى إذا مرر البرلمان، تحت تهديد السلاح، خطة ماي يجب أن يُجري تصويت شعبي آخر على خطتها للخروج.
تحب تيريزا ماي أن تٌقارن بمارجريت تاتشر، لكن الحقيقة أنها أقرب إلى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق إدوارد هيث، الذي أطاحته تاتشر.
هذا التشبيه لا يروق لماي على الإطلاق، فهو ليس مجاملة، بل بالأحرى إدانة لشخصيتها وللطريقة التي تحكم بها، فقد أدخل هيث بريطانيا المجموعة الأوروبية عام 1973 وسط انقسامات سياسية وشعبية حادة، ولم يكترث بسبب طبيعته أحادية الجانب لأي رأي آخر، وجعله عناده أسوأ عدو لنفسه حتى تمت إطاحته. واليوم تفعل ماي نفس الشيء، تُخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بخطتها، رافضة أن تنظر في أي بدائل أخرى، فيما عنادها يجعلها أسوأ عدوة لنفسها.
عندما هُزم هيث أمام حزب العمال في انتخابات مبكرة عام 1974، قيل إنه "انتحر سياسيا ولم يطح به أحد بسبب طريقته المسممة في إدارة البلاد"، وعلى الأغلب خلال فترة قصيرة ستتردد نفس العبارة عن ماي، سيقال إنها "انتحرت سياسياً ولم يطح بها أحد".