بقرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي فإن المملكة المتحدة ستخسر العديد من الميزات السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية.
منذ الإرهاصات الأولى لولادة الاتحاد الأوروبي عام 1961 ميلادية، والمملكة المتحدة في سجال ومعارك كر وفر في الانضمام للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، ومن بعدها ما تمخض عنها من ولادة الاتحاد الأوروبي وانتهاء بتوحيد العملة النقدية (اليورو) ليأتي العام 2016 بالخيار البريطاني النهائي، وقرار الشعب الحاسم في انتخابات شعبية جاءت نتيجتها وبأغلبية 52% من الأصوات تدعم انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وبطلاق بائن.
لكن الانفصال ليس بسهولة إجراء الانتخابات، بل هو أمر معقد يتطلب الكثير من الترتيبات سواء من الجانب البريطاني أو الجانب الأوروبي بعد اتحاد دام لعقود نتج عنه الكثير من المواقف السياسية والقوانين التشريعية والأنظمة الاقتصادية، بل حتى تنظيم البنى التحتية، الأمر الذي سيجعله بمثابة انقلاب بارد على حكم طويل الأمد، ولكنه في النهاية أُقر وسينفذ، مما يجعلنا أمام ميزان منطقي بين بريطانيا الأوروبية وبريطانيا المستقلة، وبعيداً عن تأثير الانفصال على الجانب الأوروبي، فإننا سنوازن بين ما يمكن أن تجنيه بريطانيا من الانفصال وما يمكن أن تفتقده جراء ذلك:
على الرغم من كل هذه السلبيات والإيجابيات الناتجة عن قرار الانفصال، فإن البريكست أصبح أمراً واقعاً لا مجال للعودة عنه، وبغض النظر عن الإرباكات المتوقعة والاضطرابات المحتملة لحظة إعلان دخوله حيز التنفيذ.
أولاً: ماذا ستخسر بريطانيا من البريكست: بقرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي فإن المملكة المتحدة ستخسر العديد من الميزات السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية، فعلى الصعيد السياسي وباعتبار بريطانيا من الدول العظمى التي يمكن لها بطريقة أو بأخرى أن تكون سيدة المنظومة التي تنتمي إليها، فإنها اليوم وبعد الانفصال عن منطقة اليورو لن تستطيع تمرير كلمتها على دول القارة العجوز، أو أن تجعلها تأخذ بعين الاعتبار أي رغبة أو مصلحة بريطانية على مستوى الأجندات التوافقية.
أما من الناحية الاقتصادية فإن الاتحاد الأوروبي كان يوفر سوقاً واسعة للمنتج البريطاني، الذي يجوب القارة بأكملها بحرية مطلقة وبسلاسة دون فرض الرسوم أو الضرائب، وبالمقابل تأخذ هي حاجتها من المنتجات الأوروبية أو الصفقات المبرمة على مستوى الاتحاد برمته مع الموردين خارج المنظومة الأوروبية، دون أدنى عرقلة قانونية أو جمركية، عدا عن تنشيط السياحة والأعداد الكبيرة من الوافدين إليها من دول الاتحاد بقصد السياحة أو الاستثمار.
كما أنها على الصعيد الأمني ستكون منفردة في قاعدة بيانات مهولة من أجهزة الاتحاد الأمنية، التي كانت تغطي العالم أجمع بتعاون استخباراتي شامل يجعل السياج الأمني الأوروبي أكثر إحكاماً وشمولية وقدرة على تحمل أعباء التغطية الأمنية الشاملة بمراقبة كل ما من شأنه تهديد أمن أوروبا والدول المنضوية تحت اتحادها على مستوى العالم، بالإضافة إلى المرونة القانونية.
فكلما اتسعت المساحة التي يحكمها قانون ما يجعل منه أكثر رسوخاً ومرونة في التطبيق لما ينتابه من تطور مستمر ليشمل كل القاعدة المجتمعية والحكومية التي تحتكم له، مما يسهم في بناء منظومة قانونية ديمقراطية فريدة.
ثانياً: ماذا ستكسب بريطانيا من البريكست: كانت وما زالت بريطانيا من الدول العظمى سواء باتحادها مع الأوروبيين أو بانفصالها عنه ولكن انضواءها تحت لواء الاتحاد الأوروبي جعل السياسة البريطانية مكبلة بعض الشيء، لانصرافها إلى التوافق مع شركائها الأوروبيين في اتخاذ القرارات السياسية الداخلية أو الخارجية، بما ينسجم وسياسة المجموعة كاملة.
هذا الأمر الذي أدى بشكل أو بآخر إلى ذوبان النفوذ البريطاني الذي كان مؤثراً على مستوى العالم أجمع، لدرجة أن بريطانيا فقدت شيئاً من ثقلها الدولي لفقدانها الحرية المطلقة التي تتمتع بها على سبيل المثال، كل من الولايات المتحدة وروسيا بالإضافة إلى فقدانها الكثير من المقاعد الدولية المستحقة لها كمنظمة التجارة العالمية.
أما على المستوى الاقتصادي، فبريطانيا ليست من الدول المستهلكة أو الدول الفقيرة اقتصادياً، بل إنها تتمتع باقتصاد قوي جداً، حتى إذا انفصلت عن الاتحاد الأوروبي فإنها قادرة على إبرام اتفقات تجارية واقتصادية مع الاتحاد ككيان منفصل عنه، لأنه بحاجة إلى المنتج البريطاني كحاجته إلى السوق البريطانية، ويضاف إليه إبرام الاتفاقات المنفصلة بما يتناسب والمصلحة البريطانية مع العالم أجمع عدا عن توفير الكثير من المستحقات التي كانت تتكلفها بريطانية لعضوية الاتحاد، لا سيما فيما يخص المهاجرين واللاجئين الذين تتحمل نفقاتهم الخزينة البريطانية، لتقيدها بحقوق اللجوء والهجرة التي تنص عليها قوانين الاتحاد، ما يكلفها أكثر من ثلاثة مليارات جنيه إسترليني سنوياً.
أما على المستوى الأمني، فإن بريطانيا تعد نفسها عرضة للإرهاب والبقاء في حالة استنفار أمني، بوجودها ضمن الاتحاد أكثر مما لو انفصلت عنه لقدرتها على ضبط حدودها وإحكام أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، التي لا يستهان بها بجغرافيتها المحددة على المستوى الداخلي وبمصالحها الذاتية الاستراتيجية على المستوى الخارجي، بما يوفر لها سرعة اتخاذ التدابير اللازمة، وبما يضمن أمنها الخاص ضمن رؤيتها الخاصة، دون حاجة للرجوع إلى شركاء يفترض بها التشاور معهم.
أما على المستوى القانوني فإنها ستخضع للتشريع البريطاني الخاص ضمن الأطر الفكرية والطبعية للبريطانيين الذين لطالما كانوا يرون أنفسهم حالة خاصة في سكيولوجيتهم، الأمر الذي جعل خضوعهم لقوانين الاتحاد أمراً ليس سهلاً، بما يفسر السجال الذي كان يحصل بين الفينة والأخرى في مسيرة الانضمام للاتحاد والمطالبات البريطانية باستثناءات من الشروط والقوانين العامة، أما بالانفصال فسيكون القانون بريطانياً بامتياز مما يسهم في وحدة العقد الاجتماعي والاستقرار القانوني والتشريعي على المستوى الداخلي وجعله أكثر صرامة وبما يتناسب والمصلحة الوطنية الخاصة تجاه الخارج.
على الرغم من كل هذه السلبيات والإيجابيات الناتجة عن قرار الانفصال فإن البريكست أصبح أمراً واقعاً لا مجال للعودة عنه، وبغض النظر عن الإرباكات المتوقعة والاضطرابات المحتملة لحظة إعلان دخوله حيز التنفيذ والدخول في المرحلة الانتقالية لتسوية أوضاع الملايين من الأوروبيين في بريطانيا ومئات الآلاف من البريطانيين في الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الأمر سيكون بداية لدخول بريطانيا مرحلة جديدة من التفرد والنفوذ للعب دور يتناسب وحجم المملكة المتحدة التي لطالما كانت دولة عظمى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة