دلالات وحيثيات إقالة دومينيك كامينغز كبير مهندسي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
دومينيك كامينغز كبير مستشاري رئيس الوزراء البريطاني يغادر مقر الحكومة تحت جنح الظلام حاملاً بين يديه صندوقا يجمع "خيباته" وأغراضه الشخصية. كامينغز هو مهندس خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، و"شيطان" الأفكار التي خلقت تصدعاً داخل حزب المحافظين الحاكم، بينما البلاد تواجه لحظات مصيرية، سواء في ملف "بريكست" أو مواجهة وباء كورونا.
كانت البيانات الرسمية تتحدث عن مغادرة المستشار لمنصبه مع حلول أعياد الميلاد، كما كان يخطط أو "يدعي" أنه يخطط. ولكن رئيس الحكومة بوريس جونسون لم يعد يملك رفاهية الوقت، وهو يعلم أن بقاء كامينغز في منصبه لذلك التاريخ قد يضيع على المملكة المتحدة ما تبقى من فرص الاتفاق مع بروكسل، وقد يجر الحزب الحاكم إلى انشقاقات غير قابلة للترميم والإصلاح أبداً.
قرر جونسون رحيل مستشاره بأثر فوري، ليفتح صفحة جديدة في العلاقة مع حزبه والبرلمان والاتحاد الأوروبي وربما مع جهات عدة. فالمرحلة المقبلة كما قال وزير الخزانة تحتاج إلى "أشخاص جدد"، والجدد وفقا لما غرد به ساسة بريطانيون، هم أناس يبحثون عن الحلول ولا يضعون العصي في الدواليب، من أجل إثبات وجهة نظرهم في قضية مثل "بريكست" أو كارثة مثل كورونا.
تنفس الصعداء الذي نقلته وسائل الإعلام عن الأوساط السياسية بعد رحيل "طرد" المستشار، تقول إن الحكومة باتت مستعدة للتراجع خطوة إلى الوراء في المفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي. فالجولة الجديدة ستستأنف الأسبوع الجاري والتنازلات مطلوبة ولا مفر منها، خاصة بعدما رفض مجلس اللوردات البريطاني تمرير قانون تعديل اتفاق الخروج الذي أعدته الحكومة.
المغادرة الفورية لكامينغز سبقتها ببضعة أيام فقط استقالة لي كين مدير الاتصالات في الحكومة. هو من صقور الخروج أيضاً، وكان مرشحا لمنصب كبير موظفي إدارة جونسون. ولكن أشياء كثيرة حدثت أدت لخروج كين وكامينغز من دائرة صنع القرار في هذا التوقيت. ولعل التوصيف الدقيق للأمر جاء على لسان البرلماني عن الحزب الوطني الاسكتلندي بيت ويشارت عندما قال: "الشخصيات مجهولة الهوية التي تدير هذا البلد في 10 داونينغ ستريت منقسمون فيما بينهم".
رئيس الكتلة البرلمانية للحزب ذاته في مجلس العموم كان أكثر وضوحا، على الأقل فيما يتعلق برحيل كامينغز، فهو برأيه مصدر ذلك الشقاق الذي اتسع بين أدنبرة ولندن طوال الأشهر الماضية، خاصة بعد أزمة جائحة كورونا وتصاعد احتمالات فشل الاتفاق مع بروكسل. فالاسكتلنديون يخشون ذلك الطلاق الصلب مع الاتحاد الأوروبي، ويعتقدون أن لا دواء له إلا بانفصال بلادهم عن بريطانيا.
ولا نذيع سراً بالقول إن موقف بريطانيا من مفاوضات ما بعد الخروج بات اليوم أكثر ضعفاً مع فوز جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية. فالرئيس المنتخب يميل إلى دعم الاتحاد الأوروبي، وحرمان لندن من إبرام اتفاقية تجارة حرة مع واشنطن في حال انفصالها عن بروكسل دون تفاهمات تميل لصالح الاتحاد. وهو لا يزال بعيدا عن التحقق مع وجود نقاط خلاف كبرى بين الطرفين.
بحسب ميشيل بارنييه كبير مفاوضي بروكسل، تستمر الخلافات مع لندن حول ثلاث نقاط رئيسية هي وصول الأوروبيين إلى مياه الصيد البريطانية وشروط المنافسة العادلة وآلية حل أي نزاعات قد تنشأ في المستقبل. هذه الخلافات برأي بارنييه "شروط أساسية لأي شراكة اقتصادية، والاتحاد الأوروبي مستعد لكافة السيناريوهات، بما في ذلك الخروج دون اتفاق رغم عواقبه الكارثية على الاقتصاد".
أياً كانت الخطط لمرحلة ما بعد "بريكست"، لن تجنب المملكة المتحدة كارثة اقتصادية وربما سياسية إن غادرت الاتحاد الأوروبي دون اتفاق. لا يمكن للحكومة الادعاء بأن هذه الخطط لم تتأثر بوباء كورونا، ولا تزال البلاد قادرة على احتواء الطلاق الصعب مع بروكسل إن وقع فعلاً. كما أنها لا تستطيع نكران تداعيات خسارة دونالد ترامب، حليف جونسون في أمريكا، على ملف الخروج.
يستشعر رئيس الوزراء البريطاني جيداً هذه المتغيرات، لذلك أسرع إلى تهنئة جو بايدن بالرئاسة الأمريكية، وتخلى عن كبير مستشاريه دومينيك كامينغز فوراً. بات جونسون يحتاج اليوم إلى أكثريته البرلمانية أكثر من أي وقت مضى، كما يحتاج إلى حزبه ومؤسسات دولته لدعم خياراته المقبلة في مفاوضات ما بعد الخروج. سواء في تقديم التنازلات أو المضي نحو الطلاق الصلب.
لقد أخفق جونسون في إدارة مفاوضات ما بعد الخروج في بداياتها. ربما لم يعترف بذلك صراحة كما اعترف بسوء إدارته لأزمة الجائحة عند تفجرها في شهر مارس/آذار الماضي، ولكن الخطوات التي يقوم بها اليوم تفصح أكثر من الكلمات، وتمهد لجولة جديدة من المحادثات مع بروكسل ربما تكون الأهم والفيصل. وخاصة إذا ما ترددت أصداء الخطوات البريطانية في بروكسل.
يحتاج الطرفان للاتفاق المرتقب من أجل استمرار التعاون التجاري والسياسي والأمني بينهما. استقالة كبير مستشاري جونسون هي أحدث الرسائل البريطانية في سياق تأكيد الحرص على العلاقة المتينة بين لندن وبروكسل، وقد سبقها بأيام إعلان دعم المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي في الحرب على الإرهاب بالقارة العجوز، وقبلها دعمه في أزمة شرق البحر المتوسط مع تركيا.
يقول رئيس وزراء بريطانيا إن استقالة كبير مستشاريه وضعت في حيز التنفيذ فورا، من أجل تنقية الأجواء داخل 10 داونينغ ستريت. يبدو هذا أكثر ما يحتاجه جونسون اليوم بعدما فاحت رائحة انقسام حكومته وحزبه، وانتشرت خارج الأروقة المغلقة، حتى وصلت إلى أسوار مجلس العموم الذي ينتظره حاملاً الاتفاق التجاري مع بروكسل، وإعلان الانتصار على جائحة كورونا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة