تجول الأسئلة في عقول السوريين عما يمكن أن تحمله الرياح الأمريكية إليهم مع وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض قادمٍ من مدرسة سياسية مغايرة.
كغيرهم من أبناء المعمورة يترقب السوريون على مختلف مستوياتهم ومواقعهم وصول القطار الانتخابي الأمريكي إلى محطته الأخيرة، حيث يحطُ الرئيس العتيد رحاله في المكتب البيضاوي، وينخرط في إدارة شؤون بلاده ويطلق دورة سياساته ومواقفه حيال مجمل القضايا المحلية والدولية التي ترتبط بشكل أو بآخر باهتمام واشنطن ومصالحها.
الثقافة السياسية الرسمية في سوريا ظلت على مدار عقود من الزمن بعيدةً كل البعد عن الاهتمام بالنموذج الأمريكي بجميع تجلياته، السياسية والاقتصادية والعسكرية، بسبب العقيدة السياسية الاشتراكية التي تبنتها الدولة السورية خلال الخمسين سنة الماضية في ظل القطبية الثنائية في العالم ممثلة بالمعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، وبالمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق حتى بداية التسعينيات من القرن المنصرم من جانب آخر، حيث تفكك المعسكرُ الاشتراكي دون أن يعنيَ تفككُه بالنسبة لسوريا تغييراً في خياراتها ونهجها رغم الكثير من الإرهاصات التي لاحت في فضاء الاقتصاد السوري بشأن عملية المزاوجة بين مرتكزاته الاشتراكية المتعلقة بدور الدولة التدخلي وتبني مبدأ الاقتصاد الحر، وقد أطلق عليها في ذلك الحين مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، وطبيعي أن يرتبط الجانبُ العسكري بهذا التوجه العام للدولة، إذ لا مجال للتعاطي مع المنتج العسكري الأمريكي، بل ظل الاعتمادُ على السلاح من المعسكر الشرقي، وعلى رأسه السوفيتي السابق، مرتكزاً لتسليح الجيش السوري، والأمر ينطبق أكثر على المعيار السياسي، بل يمكن القول إنه المحورُ والحاملُ الرئيسي لبقية الأبعاد والركائز التي تستند إليها جميع القطاعات الحكومية. الدواعي والأسباب التي تقف وراء التنافر والتناقض بين الطرفين السوري والأمريكي كثيرةٌ وعميقة على رأسها القضيةُ الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للجولان وتعارض الخيارات الاستراتيجية لكل من دمشق وواشنطن في المنطقة، لكن تموّجات السياسة عموماً وما تحدثه من هزات وانزياحات ومنعطفات أمكنَ لها أن تفرض إطاراً مغايراً للتواصل الأمريكي السوري، وكان ذلك في بداية التسعينيات من القرن الماضي مع انعقاد مؤتمر مدريد الدولي للسلام في الشرق الأوسط وما تلاه وتبعه من تواصل ولقاءات ومحادثات ومفاوضات بلغت حدوداً متقدمةً من التفاهمات بين إسرائيل وسوريا برعاية أمريكية مباشرة قبل أن تُرفَعَ تلك التفاهمات إلى رفوف التاريخ بسبب الخلافات الجوهرية بشأن مقتضيات السلام ومتطلباته واستحقاقاته، وصولا إلى منعرجات كثيرة عمّقت التناقضات والخلافات بين سوريا والولايات المتحدة، ومنها الأحداث التي عصفت بسوريا منذ عام 2011 في ظل ما عُرِف بالربيع العربي وحتى الآن.
اليوم تجولُ الأسئلةُ في عقول السوريين عن ما يمكن أن تحمله الرياحُ الأمريكية إليهم مع وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض قادمٍ من مدرسة سياسية مغايرة، في مقارباتها وفلسفتها في إدارة ورعاية مصالح بلادها، لإدارة سابقة أدارت البيتَ الأبيض لسنوات أربع ولم تحمل بارقة أمل للسوريين للخروج من نفقهم المظلم حتى الآن؟
قد يكون السؤال مشروعاً إذا ما حدثت بعض التغييرات في محددات السياسة لدى الطرفين، لكنّ الراسخَ في العقيدة السياسية الأمريكية أن الأهدافَ والاستراتيجيات العامة والكبرى لواشنطن تبقى ثابتةً ولا تخضع لتبدلات وتقلبات ناجمة عن إدارة من هذا الحزب أو ذاك، أو شخصية من هذه الثقافة أو تلك، إنها ببساطة ووضوح ترتبط بأدوات وأساليب الزعيم القابض على السلطة في البيت الأبيض، وكيفية إدارته للأمور، بحيث يوظف أدواته ومهاراته وإمكانيات إدارته لخدمة الأهداف الاستراتيجية لدولته ولمصالحها العليا التي تنبع أساساً من المصالح الوطنية الأمريكية، أي قد تتغيرُ أو تختلف التكتيكاتُ وأساليب إدارة السياسة دون المساس بجوهر أهدافها الاستراتيجية.
بعض مواقف بايدن المتعلقة بالوضع السوري الراهن لا تزال حاضرة في الأذهان وبدت متناقضة في بعض الأحيان، منها انتقادُه لقرار ترامب الانسحابَ المفاجئ من شمال شرق سوريا في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، في حين كان قد شكّك بعملية التدخل الأمريكي في سوريا. قد يكون مردُّ تلك المواقف نابعاً من الصراع والتنافس الطبيعي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري اللذين يتناوبان على رئاسة وحكم أمريكا، لكن بايدن اليوم يقود السفينةَ الأمريكية بمسؤولية القبطان الحريص على سلامة المركب والركاب من أبناء جلدته ومصالحهم الأساسية أولا، وتبنّي ما تقتضيه حماية تلك المصالح من مواقف وسياسات، وهو لن يكون مهتماً سوى بتحقيق أهداف سياساته الكبرى سواء في الشأن السوري أو غيره.
السوريون شعباً ودولة أحوج ما يكونون اليوم إلى بارقة أمل تأخذ بأيديهم نحو شاطئ أمان يمنحهم فرصة النهوض مجدداً من كبوة ثقيلة أرهقت الجميع، وقد يكون هذا الأملُ محرضَهم على الاهتمام بملامح الإدارة الأمريكية المقبلة ونهجها وتوجهاتها حيالهم.
من السابق لأوانه التكهنُ بما ستحمله الإدارة الديمقراطية الأمريكية بزعامة بايدن من توجهات وسياسات وقرارات بشأن سوريا والسوريين، لكن من الأكيد أن السوريين وحدهم ليسوا قادرين على تغيير نهج واشنطن تجاههم، وبين هذين الاحتمالين الواقعيين يبرز خيارٌ ثالث يصلح للبناء عليه يتمثل في توظيف مستجدات الواقع الناشئ في المنطقة، والتحولات الهامة فيها لاستثمارها عبر البوابة العربية تحديداً لصياغة إطار جديد للعلاقات السورية الأمريكية تنقلها نحو آفاق واعدة، ذلك أن الملفات العالقة حالياً بين الجانبين السوري والأمريكي على المستويين المحلي والإقليمي متعددة ومتشعبة، مما يعزز مسار الخيار الثالث في حال تبنيه عربياً، ودعمه ليكون معياراً لتقاطع المصالح واحترامها بدلا من تعارضها وتنافرها، وإلى حين وصول سفينة العلاقات بين الجانبين إلى مرفأ مستقر سيبقى السوريون يراقبون عملية المد والجزر التي تمنع هذه السفينة من الرسوّ بشكل آمن .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة