حيثيات الإجابة الكاملة عن سؤال: كيف لعبت أزمة كورونا دورا أساسيا في التهاب المعركة الانتخابية لغير صالح ترامب؟
الأزمة الراهنة في الولايات المتحدة عبّرت عن نفسها في تأخر الإعلان الرسمي عن نتيجة الانتخابات الرئاسية، بعد أن جرى الحديث بشأنها من قبل وسائل الإعلام الأمريكية عن فوز نائب الرئيس السابق "جو بايدن" بعد أن عبر حاجز أصوات المجمع الانتخابي التي قدرها ٢٧٠ صوتا بعد فوزه بأصوات ولاية بنسلفانيا من ناحية، وإعلان الرئيس دونالد ترامب عن معارضته للنتيجة بسبب مخالفات قانونية جرت أثناء العملية الانتخابية من ناحية أخرى.
حتى وقت كتابة هذا المقال لا تزال هذه العملية جارية، ويحيطها الكثير من اللغط داخل الولايات المتحدة وخارجها، ولكن الثابت حتى الآن أن الانتخابات هذه المرة كانت تجربة فريدة من حيث عدد المشاركين فيها الذين اقتربوا من ٧٠% ممن هم في سن التصويت، وهي سابقة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي المعاصر.
وتشهد الانتخابات من ناحية أخرى على الزخم الكبير الذي ولدته عملية التنافس الانتخابي، ووفقا للأرقام المعلنة حتى الآن حصل بايدن على ما تجاوز ٧٦ مليون صوت، والرئيس ترامب على ما هو أكثر من ٧١ مليونا بزيادة ٨ ملايين صوت عما حصل عليه في الانتخابات السابقة في عام ٢٠١٦. هذه الأرقام تعطي المدى الذي وصلت إليه عملية الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، بحيث جرت ربما أكبر عملية تعبئة سياسية عرفها التاريخ الأمريكي نتيجة الانقسام الشديد بين وجهتي النظر الليبرالية التي يمثلها بايدن وتريد عودة الولايات المتحدة مرة أخرى إلى ما وراء الانتخابات الماضية، ووجهة النظر المحافظة والقومية التي مثلها ترامب والتي حاولت أن تأخذ الدولة إلى اتجاهات جديدة غير مطروقة من قبل، والتي ثبت أن ٧١ مليونا من الأمريكيين على الأقل يؤيدونها.
المؤكد أن أزمة "كورونا" لعبت دورا أساسيا في التهاب المعركة الانتخابية في غير صالح الرئيس، واستغلها منافسه في الدعاية الانتخابية، خاصة أن الأزمة ذاتها زادت احتداما أثناء الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية.
فقد شهدت الولايات المتحدة زيادة غير مسبوقة في المستشفيات في جميع أنحاء البلاد حتى تجاوزت ٦١ ألف إصابة يوميا متجاوزة بنسبة ٤٠% عدد المصابين قبل أسبوعين من الانتخابات وبلغت في ١٧ ولاية ذروتها، وأصبحت المستشفيات فيها مكتظة، وحذر المسؤولون في العديد من الولايات الأخرى من أن أنظمة الرعاية الصحية الخاصة بها ستتعرض لضغط خطير إذا ما استمرت الحالات في الارتفاع. وأكد سجل حالات الدخول للمستشفيات الجديدة أن الولايات المتحدة دخلت أسوأ فترة للوباء منذ اندلاع المرض الأصلي في الشمال الشرقي وفي ولاية نيويورك بشكل خاص.
وعلى الرغم من أن عدد الحالات المكتشفة كان أقل بكثير في ذلك الوقت بسبب نقص الاختبارات، فإن العدد الكبير من الحالات "والوفيات" يشير إلى أن عدد الإصابات كان أكثر بكثير مما يمكن أن يؤكده نظام الاختبار. وفي الأشهر التالية، قلل بعض المعلقين، بمن فيهم مستشارو الحكومة، من أهمية عدد الحالات الكبيرة بقولهم إن الاختبارات كانت تكشف عن الأشخاص الذين لم يكونوا مرضى بالفعل، أو إذا كانوا مرضى، فإنهم مرضى بشكل خفيف فقط. هذه المعلومات ثبت خطأها، وكانت الزيادة الكبيرة في عدد الإصابات والوفيات عاملا مهما في معادلة الانتخابات الأمريكية.
ولكن "كوفيد- 19" لم يكن وحده هو ما أخذ بالانتخابات الأمريكية إلى المأزق الذي وصلت إليه من منافسة سياسية وقانونية. فالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أنه جرت أكبر عملية تعبئة للتصويت عرفها التاريخ الأمريكي ليس فقط من خلال الحملات السياسية، وإنما من خلال التسهيلات الكبيرة في عملية التصويت.
ومن المعلوم أن الولايات المتحدة هي دولة فيدرالية النظام، ومن ثم فإنه تُرك للولايات وضع النظم الخاصة بها لإجراء العمليات الانتخابية، فتفاوت بينها الزمن الذي يسمح فيه بإرسال أوراق التصويت المعتمدة، والوقت الذي يتم فيه فرز الأصوات وتنتهي فيه عمليات العد والجدولة والإعلان عن النتيجة النهائية والتصديق عليها من قبل الأجهزة المعنية.
والحقيقة هي أن الولايات تسابقت في تقديم التسهيلات لعملية التصويت سواء كانت بالبريد أو كانت من خلال التصويت في منصات انتخابية في المناطق العامة، وفي كليهما كانت هناك شكوك واتهامات بافتقاد النزاهة الانتخابية. هذا التفاوت بين خمسين ولاية خلق حالة من البلبلة الكبيرة التي جعلت فرص إعلان النتيجة النهائية صعبة خاصة بعد أن حث المدعي العام الأمريكي ويليام بار المسؤولين في الولايات بعدم إعلان النتائج حتى يتم الانتهاء من حسم كافة أشكال التقاضي المتعلقة بسلامة الانتخابات.
واستنادا إلى ذلك امتنعت عن تقديم خطاب بدء المرحلة الانتقالية إلى بايدن السيدة "إيميلي دبليو ميرفي" العاملة في مكتب الخدمات العامة في البيت الأبيض، ووظيفتها هو القيام بمهمة تسمى "التحقق"، وهذه هي أقرب كلمة عربية للمسمى باللغة الإنجليزية وهي Ascertainment، وتعني في الواقع التحقق من أن الرئيس بايدن قد نجح في الانتخابات الأمريكية.
أضافت صحيفة الجارديان البريطانية في ٣١ أكتوبر المنصرم بعدا هاما لعملية التعبئة الانتخابية، حينما أكدت على وجود حملة كبيرة لحث الملايين من الأمريكيين الفقراء ومنخفضي الدخل على الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، على أمل إطلاق العنان لسلطتهم السياسية الهائلة غير المستغلة، والتي يمكن أن تكون حاسمة إذا قاموا بالتصويت. هذا الجهد، بقيادة حملة الفقراء في تحالف مع أكثر من ٢٠٠ مجموعة بإرسال نداءات اللحظة الأخيرة عبر رسائل نصية إلى أكثر من مليوني ناخب مؤهل لتشجيعهم على إسماع أصواتهم. واعتقد المنظمون ساعتها أن الاحتياطي المكبوت للأمريكيين ذوي الدخل المنخفض غير المصوتين يمكن أن يحدد النتائج فيما يصل إلى ١٥ ولاية رئيسية. هذا الجهد المبذول في الأيام الأخيرة لسباق ٢٠٢٠ كان تتويجًا لسنوات من العمل من أجل التعبئة السياسية لـ ٤٠ مليون أمريكي فقير يعيشون في الولايات المتحدة و١٤٠ مليونا من ذوي الدخل المنخفض. وضمن هذا العدد الهائل من الناخبين، يميل الناس إلى التصويت بمعدل يقل بنحو ٢٠% عن نظرائهم من مواطنيهم الأكثر ثراءً. ورغم أن دراسة نشرتها الحملة في أغسطس أنه في عام ٢٠١٦، خرج حوالي ٣٤ مليون أمريكي من الفقراء أو ذوي الدخل المنخفض ممن كانوا مؤهلين للتصويت في الانتخابات التي وضعت دونالد ترامب في البيت الأبيض. هؤلاء الفقراء وأصحاب الدخل المنخفض ساهموا هذه المرة أولا في تحقيق زيادة كبيرة في عدد المصوتين؛ وثانيا أن تصويتهم قد يكون مغايرا لما جرى عليه الحال في الانتخابات السابقة بسبب أن الفيروس التاجي وجد في الفقراء والملونين فرصة للإصابة والوفاة أكثر مما هو الحال في الشرائح الاجتماعية الأخرى.
الثابت في النهاية هو أن الأزمة الحالية لم تكن أولى الأزمات ولن تكون آخرها التي تتعرض لها الولايات المتحدة والتي شهدت مثيلا لها من قبل، وكان أكثرها شدة أثناء الحرب الأهلية الأمريكية والفترة التي تلتها، وأثناء فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي عقد الستينيات شهدت أمريكا الكثير من الصدام الاجتماعي وشبكة من الاغتيالات السياسية شملت جون كنيدي وروبرت كنيدي ومارتن لوثر كينج.
الخروج من الأزمة الراهنة لن يكون مختلفا عن الأزمات السابقة، وهذه المرة ربما يشكل انعقاد المجمع الانتخابي في ١٤ ديسمبر المقبل نقطة يستقر عندها الاختيار الأمريكي ويمضي بعدها إلى الأمام من جديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة